الذاكرةُ هي خابيةُ التجربةِ و"سِدّةُ" مؤونةِ الرّوحِ المليئةُ برائحةِ الأحبّةِ وأصواتِهم وملامحِهم، وهي مؤونةٌ لا تنضبُ، بلْ تزدادُ ثراءً كلّما مددْنا أيدينا وأخذْنا منها ما يقتلُ جوعَ اللحظةِ ويقهرُ غولَ الخوف. الثاني والعشرونَ من كانون الأوّل/ديسمبر بدايةُ فترةٍ تمتدُّ لأربعينَ يوماً هي فترةُ "الإجازةِ الإجباريّةِ" للفلّاحِ الفلسطينيّ، سمّاها أجدادُنا "المربعانيّةَ" فكانوا بتجربتِهم الطويلةِ يسبقونَ عِلمَ الفلَكِ في تحديدِ فصولِ السّنةِ والتّنبؤِ بأحوالِ الجوِّ، كيفَ لا، وهم الذينَ أتقَنوا لغةَ الحوارِ معَ الأرضِ وأدركوا الأسرارَ التي تحملُها الرّياحُ بينَ كفّيها وتذروها غيماً ومطراً يقبّلُ الأرضَ ويسجدُ في محرابِها؟ لقد أثبتَ العِلمُ أنّ فترةَ "المربعانيّةِ" التي تمتدُّ من اليومِ حتى نهايةِ كانون الثاني/يناير هي فترةُ التغيّراتِ الجويّةِ الأكثرَ اضطراباً وتقلّباً طوالَ العامِ، وهذا مرتبطٌ بالزّاويةِ التي تدورُ بها الأرضُ حولَ نفسِها، وهي زاويةٌ توفّرُ الشّرطَ اللازمَ لتشكُّلِ المنخفضاتِ الجويّةِ التي تجلبُ الرّياحَ والغيومَ المحمّلةَ بالأمطارِ من البحارِ والمحيطاتِ وتمنحُها هديّةً للأرضِ. لذلكَ كلّهِ دأبَ الفلّاحونَ على تحصينِ أنفسِهم استعداداً لاستقبالِ "المربعانيّةِ" بما تحملُهُ من بردٍ شديدٍ وقطعٍ مؤقّتٍ لحبْلِ التّواصُلِ مع الأرضِ. ولعلَّ تخزينَ الحَطَبِ هو الأولويّةُ التي كانت تسبقُ تخزينَ القمحِ والزّيتِ والطّحينِ والخرّوبِ والزّبيبِ وغيرِها من ضروراتِ العبورِ الآمنِ من ممرِّ البردِ والمطرِ وتوقّفِ الأرضِ عن العطاءِ لانشغالِها هي الأخرى بتجديدِ مخزونِها من الماءِ استعداداً لموعدِها مع الرّبيعِ.

 

ليسَ هناكَ شئٌ في خوابي الذّاكرةِ الفلسطينيّةِ يفوقُ بتأثيرِهِ على الشّخصيةِ الفرديّةِ والجمعيّةِ "كانونَ النّار". فقد كانَ هذا "الوعاءُ" البسيطُ بما فيهِ من الدّفءِ مركزَ التجمّعِ ونقطةَ اللقاءِ الأكثرَ حميميّةً وحفاظاً على روابطِ الأُسرةِ والأهلِ والأصدقاء. لم يكن التحلّقُ حول "الكانونِ" مجرّدَ تصرّفٍ غريزيٍّ للتغلّبِ على سياطِ البردِ، لكنّهُ كانَ دخولاً إلى محرابِ التّراثِ وبدايةَ فكِّ ألغازِ الحياةِ والإلمامِ بتفاصيلِها. هنا تعلّمنا من أجدادِنا وجدّاتِنا ووالدَينا قصصَ الأبطالِ وحكاياتِ "حديدون" و "جبينة" وأساطيرَ الغولِ والجنِّ والضّبعِ التي كانت تنقُلنا إلى فضاءِ الخيالِ وآفاقِ عالَمٍ نتوقُ إليهِ ونخالُهُ حقيقةً يكفي أنْ يبتسمَ لنا الحظُّ لنفوزَ بكنوزهِ التي تحرسُها أفعى أو ماردٌ أو جنيٌّ. تعلّمْنا حولَ "الكانونِ" ثقافةَ الاستماعِ إلى كبارِنا، كيفَ لا وهم الذينَ يدفّئوننا كلَّ ليلةٍ بقصّةٍ جديدةٍ تنتهي كما انتهت سابقاتُها بانتصارِ الخيْرِ على الشرِّ والضعيفِ على المتجبِّرِ؟

 

كان ثمنُ "المربعانيّةِ" باهظاً، فقد كانت هذه الفترةُ مكتظّةً بزياراتِ ملَكِ الموتِ ليأخذَ منّا أعزَّ النّاسِ وهم كبارُ السّنِّ الذينَ لم يكنْ بمقدورِهم التغلّبُ على بردِ الشتاءِ، من هنا جاءت المقولةُ الشعبيّةُ: "البَردُ أساسُ كلِّ علّةٍ"، ولذلكَ ارتبطت هذهِ الفترةُ بالموتِ وكأنّهُ هو الآخرُ جزءٌ لا مفرَّ منهُ مرتبطٌ "بالمربعانيةِ" كالبرْدِ والعواصفِ والأمطارِ وكانونِ النّارِ وقصصِ الغولِ والجنّ. كان الموتُ مفجِعاً، لكنّهُ كان واحدةً من مكوّناتِ الحياةِ ونهايةً طبيعيّةً لها. هكذا تعايشَ الفلسطينيُّ المؤمنُ باللهِ والعاشقُ لأرضِهِ مع قسوةِ الطبيعةِ و"حقِّ الموتِ" قبلَ أنْ يبدأَ غولُ الاحتلالِ الصهيونيِّ بخطفِ أرواحِ النّاسِ على مدارِ السّنةِ ودونَ تمييزٍ بينَ مسنٍّ ما زالَ في جعبَتِهِ الكثيرُ من الحكاياتِ التي لم يَرْوِها بعدُ، أو طفلٍ لم ينتَهِ بعدُ منَ الاستماعِ إلى حكاياتِ جدّهِ، فقدً خرجَ الغولُ من الحكاياتِ التي كنّا نتجمّعُ حولَها عندما كانت "مسحورةً" لا تجرؤ على الإفلاتِ من "كانونِ المربعانيّةِ" وأخذَ يمارسُ هوايةَ القتلِ التي لا يُتقِنُ شيئاً غيرَها. 

 

*يمقتُ شعبُنا مصطَلحَ "الانقلابِ" لما تسبّبَ بهِ من ويلاتٍ ومصائبَ لا حصرَ لها، ويبقى الاستثناءُ الوحيدُ هو ما تحتفظُ بهِ ذاكرتَنا من حكاياتِ "المربعانيّةِ" التي تبدأ في الثاني والعشرين من كانون الأول/ديسمبر -يومِ "الانقلابِ الشتويِّ".

 

٢٢-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان