لم يكن المشاركونَ في الحربِ الباردةِ محصورين في المعسكرِ الشيوعيِّ (السوفياتيِّ) والغربي-الرأسمالي بقيادةِ أمريكا، لكنّ الانقسامَ على المستوى الدوليِّ امتدَّ ليشملَ دولاً وأحزاباً ونقاباتٍ مهنيّةً وغيرَها من مكوّناتِ المجتمعِ الدوليّ على امتدادِ خارطةِ العالمِ. وواهمٌ من يظنُّ أنّ خطوطِ الانقسامِ في المواجهةِ بينَ القُطبَيْنِ كانت تسيرُ بشكلٍ منطقيٍّ يصمدُ أمامَ امتحانِ العقلِ والتقييم. فبينما كان المعسكرُ الشيوعيُّ بزعامةِ الاتحادِ السوفياتيُّ يوصفُ من قِبَلِ خصومِهِ بالاستبدادِ والشّموليّةِ، فإنّ المعسكرَ "الديمقراطيَّ" الغربيَّ قد ارتكزَ في صدامِهِ مع خصمِه "الشيوعيّ" على أنظمةٍ استبداديّةِ قمعيّةٍ لا تمتُّ إلى "الديمقراطيّةِ" بأدنى صلةٍ، إضافةً إلى تحالفِ الغربِ مع الإسلامِ السياسيِّ واستغلالِهِ لهُ كرأسِ حربةٍ في مواجهةِ التدخّلِ السوفياتيِّ في أفغانستان. ويعلمُ القاصي والدّاني أنّ "المجاهدينَ" من أجلِ تحريرِ أفغانستانَ الذينَ عملوا بتمويلٍ وتسليحٍ مباشرٍ من الولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّةِ هم الذين شكّلوا نواةَ الحركاتِ الإرهابيّةِ التي ما زالَت تعيثُ خراباً وتقتيلاً في المنطقةَ كلّها وبشكلٍ ممنهجٍ يتساوقُ مع أهدافِ السياسةِ الأمريكيّةِ بنشرِ الفوضى وإنْ بدا في ظاهرهِ متعارضاً مع تلكَ السياسةِ أو متصادماً معها.

لقد انتهت الجولةُ السّاخنةُ من الحربِ الباردةِ بانهيارِ الاتحادِ السوفياتيِّ في بدايةِ التسعينيّات من القرنِ الماضي، وهي الفترةُ التي استغلّتها أمريكا لإعادةِ تشكيلِ المنطقةِ العربيةِ بدءاً بحربِ الخليجِ الأولى التي لمْ يُكتَبْ فصلُها النهائيُّ بعد. وجاءَ زلزالُ ما سميَّ بالرّبيعِ العربيِّ كمحاولةٍ قامَ بها الغربُ بقيادةِ أمريكا لتسليمِ السّلطةِ في المنطقةِ هديّةً للقوى التي تحالفت معها في الحربِ الباردةِ، وفي أفغانستانَ على وجهِ التّحديدِ، وفي مقدّمةِ تلك القوى جماعةُ الإخوانِ المسلمينَ التي شكّلت أرضيةً فكريّةً وحاضنةً مغلّفَةً بالغطاءِ الدّينيِّ تسلّلَ من خلالِها جيلٌ كاملٌ من التكفيريّينَ الذين لا يؤمنونَ لا بالحوارِ ولا بثقافةِ الاختلافِ مع الآخرِ. وواهمٌ من يظنُّ أنَّ معركةَ "تنصيبِ" "الإخوانِ" وتسليمِهم مقاليدَ السُّلطةِ في الوطنِ العربيِّ قد انتهت، فما يحدثُ في دولِ المغربِ العربيِّ هو جولةٌ جديدةٌ من المحاولاتِ الرّاميةِ إلى إشراكِ "الإخوانِ" برعايةٍ تركيّةٍ مباشرةٍ في اقتسامِ ما تبقّى من مظاهرِ السّلطةِ في الدّولِ التي عصفت بوحدتِها رياحُ الربيعِ العربيِّ سيّءِ الصّيتِ، إضافةً إلى طموحِ تركيا في المشاركةِ باقتسامِ ثرواتِ البحر الأبيضِ المتوسطِ وفي مقدّمتِها الغازُ الطبيعيُّ، وهي معركةٌ متعدّدةُ الأطرافِ تشاركُ فيها إضافةً إلى تركيا كلٌّ من اليونانِ وقبرص ودولةِ الاحتلالِ الإسرائيليِّ، مع تغييبٍ كاملٍ للدّورِ العربيِّ حتى من قِبَلِ الدّولِ المعنيّةِ مباشرةً بالدفاعِ عن حقوقِها ومصالحِها ومياهِها الإقليميّة.

ليس غريباً إذنْ هذا القلقُ المتزايدُ الذي تعبّرُ عنهُ مصرُ في مواجهةِ المحاولاتِ التركيّةِ للدخولِ إلى ليبيا، ففي ظلِّ التبنّي التركيِّ المُطلقِ لجماعةِ الإخوانِ المسلمينَ في مصرَ يصبحُ وجودُ تركيا على الحدودِ الغربيّةِ لمصرَ خطراً يهدّدُ أمنَها القوميَّ وينذِرُ بمزيدٍ من التدَخّلِ الفظِّ في شؤونِها. ولا يجوزُ التعاملُ مع الصراعِ في ليبيا كخلافٍ على السُّلطةِ بينَ السَرّاجِ وحفتر، ولا كجولةٍ جديدةٍ من الحروبِ  بينَ المحاورِ المتقاتلةِ في المنطقةِ، فخارطةُ التحالفاتِ لا تشبهُ سابقاتِها، إذ تقفُ فرنسا وروسيا مع مصر والإماراتِ، بينما تصطفُّ تركيا وقطر وإيطاليا خلفَ حكومةِ السرّاجِ التي تشكّلُ واجهةَ الإخوانِ المسلمين في ليبيا. من هنا يجبُ الاهتمامُ بما يجري في ليبيا لأنّهُ خطوةٌ أخرى في طريقِ تقسيمِ المغربِ العربيِّ بعدَ أنْ شارفت الحربُ في سوريا على نهاياتِها وفي ظلِّ احتدامِ الصّراعِ لتثبيتِ خارطةِ الغنائمِ في المشرقِ العربيِّ بينَ روسيا وتركيا وإيرانَ وأمريكا. يجبُ على الأمةِ التوقّفُ عن لعبِ دورِ المتفرّجِ على ما يحاكُ ضدّها، وإلّا فإنَّنا سنجدُ أنفسنا أمام تقسيمٍ جديدٍ للوطنِ العربيِّ بكلِّ ما يعنيهِ ذلكَ من خطرٍ يهدّدُ وحدةَ أراضيهِ ومصالحَ شعوبِهِ ومستقبَلَها، وستكونُ النتيجةُ المباشرةُ لذلكَ تكريسَ دعائمِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ الإسرائيليِّ بكلِّ ما يمثّلهُ من خطرٍ يهدّدُ فلسطينَ والأمّةَ بأسرِها.

*الحفاظُ على وحدةِ وسلامةِ الدّولِ العربيّةِ ومصالِحها الحيويّةِ هو أولويّةٌ فلسطينيّةٌ مثلما هو ضرورةٌ قوميّةٌ تمسُّ الأمّةَ كلّها. ولن يشغلَنا واجبُ التصدّي للاحتلالِ الاستيطانيِّ الإسرائيليِّ عن واجبِ الاهتمامِ بالأمنِ القوميِّ العربيِّ. 

١٥-١-٢٠٢٠
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان