السلطةُ المركزيّةُ القويّةُ هي ضمانةُ وحدةِ الأوطانِ، والأمثلةُ على ذلك حولَنا كثيرةٌ، فقد تفتّتتْ دولٌ عديدةٌ وعادت إلى الاحتكامِ إلى عقليةِ الجاهليةِ التي تستخدمُ المنطقةَ والعشيرةَ سهماً توجّههُ إلى صدِرِ الوطنِ ومكوّناتِهِ التي حافظت على تماسُكِهِ لسنواتٍ طويلة. هذا هو حالُ دولٍ كانت حتّى الأمسِ القريبِ تحتَ حُكْمِ سلطةٍ توحّدُها وتجعلُ الوطنَ عاملَ الإجماعِ الأوّلَ والأهمَّ. لقد أدركَ أعداءُ الأمّةِ أنَّ تحطيمَ بُنيةِ الدّولِ يبدأ بتحطيمِ سُلطتِها المركزيّةِ وتغذيةِ المناطقيّةِ والعشائريّةِ والطائفيّةِ. وقد شكّلت الجيوشُ النظاميةُ في الدّولِ العربيةِ الحديثةِ مؤسّسةً فريدةً من نوعِها، فهي الإطارُ البديلُ للقبيلةِ والعشيرةِ، وهي ضمانةُ تنميةِ وتعزيزِ الوعي بالانتماءِ للوطنِ. من هنا كان استهدافُ تلكَ الجيوشِ جزءاً من استهدافِ سُلطةِ الدولةِ المركزيّةِ، لتحلَّ الميليشياتُ محلَّ الجيشِ والطائفةُ محلَّ الوطن.

 

ليسَ هناكَ مثالٌ واحدٌ يصلحُ للقياسِ عليهِ في الحالةِ الفلسطينيّةِ، فلا نحنُ دولةٌ تحكمُها سلطةٌ مركزيّةٌ قادرةٌ على فرضِ القانونِ والنّظامِ، ولا نحنُ نمتلكُ الجيشَ القادرَ على الحفاظِ على وحدةِ الوطنِ وحمايتِهِ من الأعداء. لا حاجةَ للقولِ أنَّ الاحتلالَ هو عامِلُ التخريبِ الأبرزُ السّاعي باستمرارٍ إلى شرذمةِ الوطنِ وتغذيةِ نزعاتِ التّقوقعِ في شرنقةِ العائلةِ والعشيرةِ والمنطقةِ. هكذا ساهمَ الاحتلالُ في توفيرِ الأرضيّةِ الملائمةِ لانقلابِ حماس على الشرعيةِ الوطنيّةِ، وهكذا يعملُ على إطالةِ عُمرِ الانقلابِ وتكريسِ الانقسامِ. ولا يختلفُ عاقلانِ على حقيقةِ كَونِ الانقسامِ مصلحةً للاحتلالِ دونَ غيرهِ، كما أنَّ شعبَنا يُجمعُ على أنّنا بحاجةٍ إلى جهودِ كلِّ العقلاءِ لاستعادةِ الوحدةِ وحرمانِ العدوِّ من هذهِ الخدمةِ المجانيّةِ التي يقدّمُها له كلُّ من يعملُ على إعاقةِ إنجاحِ جهودِ طيِّ صفحةِ الانقلابِ والانقسام.

 

لا ينحصرُ الخطرُ الذي يهدّدُنا في كارثةِ الانقسامِ وفَصلِ غزةَ عن الوطنِ، لكنّه يمتدُّ ليهدّدَ النسيجَ الوطنيَّ ومكوّناتهِ. ولا بدَّ من دقِّ ناقوسِ الخطرِ ورفعِ الصّوتِ عالياً في وجهِ مظاهرِ الاستقواءِ على الوطنِ بالعشيرةِ والمنطقةِ، فلا يمكنُ إيجادُ مبرّرٍ واحدٍ لتغليبِ هذهِ الثقافةِ على منطقِ الاحتكامِ للمؤسّساتِ الوطنيّةِ والتقيّدِ بالقانونِ بدلاً من استخدامِ العشائرِ كسلاحٍ لابتزازِ السلطةِ ومؤسّساتِها. وفي هذا المجالِ لا بدَّ أن يبادرَ التّنظيمُ ومعهُ القوى الوطنيّةُ الحريصةُ على المصلحةِ الوطنيّةِ إلى القيامِ بدورِهِ الطبيعيِّ في قيادةِ الشّارعِ وتحديدِ أولوّياتِهِ الوطنيّةِ. فالتّنظيمُ هو الجهةُ التي تؤدّي دورَ الجيشِ الوطنيِّ في الدّولِ المجاورةِ، لأنّهُ بوتقةُ ترسيخِ ثقافةِ الانتماءِ إلى الوطنِ قبلَ العشيرةِ والمنطقةِ، وهو أداةُ الحفاظِ على اتجاهِ بوصلةِ الأولويّاتِ الوطنيّةِ نحو التّصدّي للاحتلالِ والاستيطانِ دونَ إغفالِ احتياجاتِ المواطنِ ودونَ التوقّفِ عن حثِّ مؤسّساتِنا الوطنيّةِ على القيامِ بواجباتِها بطريقةٍ عادلةٍ لا تعرفُ التمييزَ بينَ منطقةٍ وأخرى ولا تتقاعسُ عن محاسبةِ كلِّ من يسيءُ استخدامَ السُّلطةِ أو يتطاولُ على القانونِ والنظامِ. 

 

*الاحتماءُ بالعشيرةِ والمنطقةِ لا يبني وطناً ولا يساهمُ في فرضِ القانونِ أو في تطبيقِ العدالةِ، والأَولى بالعشائرِ الكريمةِ بدلاً من الاستنفارِ في وجهِ السُّلطةِ ومؤسّساتِها دفاعاً عن "هيبةِ العشيرةِ وشرفِها" أنْ تتعاملَ مع اعتداءاتِ جنودِ الاحتلالِ ومستوطنيهِ على الأطفالِ والفتياتِ والشبّانِ كقضيّةٍ تمسُّ شرفَ العائلاتِ والعشائرِ والوطن.

 

٢٣-١٢-٢٠١٩

 

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان