لم تتبدّلْ مكانةُ فلسطينَ منذُ فجرِ التّاريخِ، ولم يستطِعْ أحدٌ تحريفَ اسمِها منذُ أنْ قرّرَ الكنعانيّون بناءَ حضارةٍ استوعبت كلَّ من سكَنَ أرضَ كنعانَ التي صارَ اسمُها فلسطينَ، وهي الوطنُ الذي يرسمُ أصغرُ طفلٍ في مخيّمٍ مقهورٍ خارطتُهُ دونَ أنْ يتردّدَ أو تخونَهُ ذاكرتُهُ الغضّةِ. ولم تغيّر فلسطينُ موقعَها ولا اسمَها بعدَ وعدِ بلفور عام ١٩١٧، وهو عامُ الخديعةِ الكبرى التي قادتْها الامبراطوريّةُ البريطانيّةُ المنتصِرةُ في الحربِ الكونيّةِ وسخّرت كلَّ جبروتِها لممارسةِ الظُّلمِ ضدَّ شعبِ فلسطينَ الأعزلِ وسلّمت وطنَهُ للحركةِ الصهيونيّة. لم تغيّر فلسطينُ موقعَها ولا اسمَها بعدَ النّكبةِ التي حلّتْ بها عامَ ١٩٤٨، ورغمَ ظهورِ دولةِ الاحتلالِ والاستيطانِ الصهيونيِّ فوقَ جزءٍ من وطنِنا ثمَّ فوقَهُ كلّهِ فقد بقي اسمُ فلسطينَ مخصّصاً للأرض التي حَملَتهُ عبرَ التّاريخِ، فبينما اتفّقَ العالَمُ المنافِقُ على تخصيصِ الغزاةِ القادمينَ من عتمةِ التّاريخِ بلقبِ "الإسرائيليّينَ" إلا أنَّ "الفلسطينيَّ" ظلَّ اسماً ملاصقاً لكلِّ واحدٍ من أهلِ الأرضِ وورثةِ اسمِها وتاريخِها وسدَنةِ مقدّساتِها وخزَنَةِ أسرارِ اللهِ التي ائتمنَهم عليها منذُ أنْ نضجَ الإنسانُ وأصبحَ قادراً على نسْجِ علاقةٍ مباشِرةٍ مع الخالق. 

 

ليست فلسطينُ لحظةً عابرةً في التّاريخِ يُمكنُ تجاوزُها بجرّةِ قلَمٍ، وليس الشّعبُ الفلسطينيُّ رقماً زائداً يمكنُ شطبُهُ أو تجاهلُ وجودِهِ بقرارٍ من رئيسٍ متهوّرٍ يظنُّ أنّهُ الآمِرُ النّاهي وأنَّ ما يقولُهُ قدرٌ محتومٌ. وعلى من يتعاملُ مع القضيّةِ الفلسطينيّةِ من منظورِ اللحظةِ الرّاهنةِ أن يعيدَ قراءةَ التّاريخِ، ولا نعني هنا التاريخَ القديمَ وحدَهُ، وإنّما نعني على وجهِ الخصوصِ تاريخَ قرنٍ كاملٍ من الصراعِ ضدَّ المشروعِ الصهيونيِّ في فلسطينَ، وهي مرحلةٌ صعبةٌ وقاسيةٌ حملتْ معها لشعبِنا سلسلةً لم تنتهِ بعدُ من الآلامِ والمعاناةِ، لكنّها لمْ تُجبِرْهُ ولو مرةً على رفعِ الرّايةِ البيضاءِ أو الإقرارِ بالهزيمةِ أمامَ هذا الطوفانِ من قوى الشرِّ التي تتناوبُ على قيادةِ معسكرِ الأعداءِ وتسخّرُ تعسُّفَها ضدَّ شعبِ فلسطينَ وحقوقِهِ، وأوّلُها حقّهُ في الحريّةِ والحياةِ الكريمةِ في وطنِه. على إدارةِ ترامب أن تعي كلَّ ما تقدّمَ وأكثرَ منهُ، ففلسطينُ أكبرُ من الحملاتِ الانتخابيّةِ التي يحاولُ ترامب ونتانياهو استخدامَها للتغطيةِ على فضائحِهما، ولا يتورّعانِ عن المجازفةِ بمستقبلِ المنطقةِ وبأمنِ وسلامةِ واستقرارِ العالَم عبرَ طَرْحِ ما يسمّى بصفقةِ القَرنِ التي تحاولُ تجاوزَ قَرنٍ كاملٍ من صمودِ الشّعبِ الفلسطينيَّ وثباتِهِ في وطنِهِ وتمسّكهِ بحقوقِهِ.

 

ترامب هو الرئيسُ الأمريكيُّ الثامنُ عشرَ منذُ وعدِ بلفور، وقد ذهبَ رؤساءٌ قبلَهُ الى عالمِ النسيانِ وتجاوزتْهم ذاكرةُ التّاريخِ بينما بقيت فلسطينُ ونضالُ شعبِها عنواناً ومقياساً للعدالةِ والأخلاقِ ومثالاً للشّجاعةِ والصّمودِ والعنادِ والتمسّكِ بالأرضِ. لقد أيقنَ شعبُنا منذُ بداياتِ المشروعِ الصهيونيِّ الاستعماريِّ الغربيِّ أنّهُ أمامَ قوّةٍ غاشمةٍ لنْ يستطيعَ هزيمتَها بينَ يومٍ وليلةٍ، وعندما قرّرَ الإمساكَ بمصيرهِ بيدهِ وأعلنَ انطلاقةَ ثورتِهِ المعاصرةِ في الفاتحِ من كانون ثاني/يناير ١٩٦٥ اختارَ حَرْبَ الشّعبِ طويلةَ الأمدِ طريقاً لانتزاعِ حقوقِهِ بكلِّ ما يعنيهِ ذلكَ من وعيٍ بطبيعةِ الصّراعِ. ولو كانَ شعبُنا جاهلاً بقوّةِ الأعداءِ أو كانَ على عَجلةٍ من أمرِهِ دونَ الالتفاتِ إلى مستقبلِ الأجيالِ القادمةِ لوافقَ على قرارِ التقسيمِ أو رضيَ بالإملاءاتِ الأمريكيّةِ في مفاوضاتِ كامب ديفيد. لكنّه رفضَ التنازلَ عن حقوقِهِ لأنّهُ ببساطةٍ يدركُ أنَّ الموافقةَ على شروطِ الأعداءِ لن تقودَ سوى إلى إطالةٍ أمَدِ معاناتِهِ وإلى إضفاءِ الشّرعيةِ على الظّلمِ التاريخيِّ الذي لحقَ بهِ وما زالَ يعاني من آثارِهِ. هذا هو المدخلُ للتّعاملِ مع ما يسمّى بصفقةِ القرنِ، فإذا كانَ ترامب ونتانياهو مُصِرَّيْنِ على فرضِ حلولٍ تتناقضُ مع مصالحِ وحقوقِ شعبِنا عبرَ استغلالِ الوضعِ الرّاهنِ بكلِّ ما فيهِ من خللٍ لصالحِ معسكرِ الأعداءِ، فإنَّ شعبَنا بتجربتِهِ الطويلةِ وتاريخِ نضالِهِ الزّاخرِ بوقفاتِ العزّةِ والكبرياءِ قادرٌ على رفضِ كلِّ ما يتعارضُ مع حقوقِهِ الوطنيّةِ مهما كانت الإغراءاتُ والتّهديداتُ التي سيتمُ تغليفُ "صفقةِ القرنِ" بها. لقد طالتْ معاناةُ شعبِنا، لكنَّ هذا لا يعني أنّنا يمكنُ أنْ نقبلَ بأيِّ مشروعٍ ينتقصُ من حقوقِنا التي ناضلتْ من أجلِها أجيالٌ متعاقبةّ خلالَ ما يزيدُ على مئةِ عامٍ، وفي مقدّمتِها حقُّ اللاجئين بالعودةِ إلى ديارِهم، ثمَّ حقُّ شعبِنا بإقامةِ الدولةِ الفلسطينيّةِ المستقلّةِ وعاصمتُها القُدسُ. 

 

كتبَ الشّاعرُ العربيُّ نزار قباني:

نحنُ أصْلُ الأشياءِ، لا فوردُ باقٍ

فوقَ إيوانِهِ.. ولا رابينُ

نحنُ عكّا ونحنُ كَرمِلُ حَيفا

وجبالُ الجَليلِ واللّطرونُ

 

أيّها الفلسطينيُّ: استَبْدِل فورد بترامب ورابينَ بنتانياهو.. وردّدْ نَشيدَ الوطنِ، ففلسطينُ هي الحقُّ والحقيقةُ، وَهُمْ وَهْمٌ. 

 

٢٩-١-٢٠٢٠

 

الرّسالةُ الأسبوعيّة

رسالةٌ حركيّةٌ أسبوعيّةٌ من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان