لم يكن استشهادُ القادةِ الثّلاثةِ، أبو إياد وأبو الهول وأبو محمّد، جريمةَ اغتيالٍ من النّوعِ الذي اعتادت عليهِ حركةُ "فتح" وتعاملت معهُ كضريبةٍ لا مفرَّ من دفعِها في مسيرةِ الثّورةِ وصدامِها الحتميِّ مع العدوِّ، سواءً في ساحاتِ المواجهةِ المباشرةِ أو في حربِ الاستخباراتِ التي امتدّت لتشملَ غالبيّةَ دولِ العالمِ إضافةً إلى القواعدِ الارتكازيّةِ للثورةِ ومؤسّساتِها وأجهزتِها المركزّية. ففي الصراعِ المباشرِ مع العدوِّ لمْ نتردّدْ في تقديمِ قادتِنا وكوادِرِنا شهداءَ نتألّمُ لفقدانِهم بنفسِ قَدْرِ إحساسِنا بالفخرِ والاعتزازِ لأنَّ القادةَ يستشهدونَ معَ جنودِهم، وبهذا يَصدُقُ وعدُ الجيلِ المؤسِّسِ للثورةِ بأنّهُ جيلُ الروّادِ الذينَ يتقدّمونَ الصفوفَ ولا يُخفونَ أنفسَهم خلفَ المقاتلينَ أو تحتَ الأرض. وفي معركةِ المواجهةِ المباشرةِ مع العدوِّ قدّمنا أغلى من نملك: أميرَ الشهداءِ أبو جهاد، وقبلَهُ وبعدَهُ قائمةً طويلةً من القادةِ والكوادرِ الذينَ أعطوا الثّورةَ قدرتَها على الصّمودِ والاستمرارِ حتى اكتملتْ صورةُ الثّورةِ باستشهادِ القائدِ الرمز أبو عمار. لم تكن جريمةُ اغتيالِ الشهداءِ الثّلاثةِ في الرابع عشر من كانون ثاني/يناير ١٩٩١ كغيرِها من الجرائمِ، فالأداةُ والتوقيتُ وحجمُ الخسارةِ التي لحقت بنا كانت استثنائيّةً بكلِّ تفاصيلِها.

 

كانَ قرارُ اغتيالِ القادةِ الثلاثةِ إعلاناً لبدءِ مرحلةٍ جديدةٍ في الحرب على الأمّةِ وبدايةً حقيقيّةً لغزوِ العراقِ الذي لم تنتَهِ فصولُهُ بعد. وعلى الرّغمِ من تحديدِ القاتلِ المباشرِ واعترافاتِهِ حول علاقتِهِ بالمجرم صبري البنّا "أبو نضال"، إلا أن توقيتَ وطريقةَ الاغتيالِ تؤكّدُ أنَّ القرارَ بتنفيذِهِ كانَ قراراً أكبرَ من البنّا وعصابتِه. وكلُّ من قرأ اعترافات المجرم "حمزة" يدركُ كيف سعى من خلالِها إلى تبرئةِ العدوِّ من الجريمةِ والادّعاءِ بأنَّ اختيارَ لحظةِ تنفيذِ الجريمةِ كانَ قراراً فرديّاً اتّخذَهُ هو عندما "لاحت لهُ الفرصة". ولا يمكنُ التعاملُ مع الجريمةِ إلا بصفتِها تتويجاً للمهمّةِ التي أوكلت لصبري البنّا وعصابتِه خلالَ عقدين من الزّمنِ مارسَ خلالَها القتلَ والاغتيالَ ضدّ خيرةِ أبناء الحركةِ، بما فيهم الشهيد عصام السرطاوي. وقد تناوبت الأنظمةُ العربيّةُ رغمَ خلافاتِها المريرةِ على رعايةِ عمليّاتِ القتلِ والاغتيالِ التي نفّذتْها عصابةُ "أبو نصال" ووفّرتْ لهُ الأوكارَ الآمنةَ والتدريبَ والتسليحَ وجوازاتِ السّفرِ المزيّفةَ، ناهيكَ عن الغطاءِ السياسيِّ الذي احتكرَ الخطابَ القوميَّ ولم يتركْ صفةً شائنةً إلا وألصَقَها بالثّورةِ وقيادتِها وخطّها السياسيِّ. لذلكَ كانَ من السّهلِ تجنيدُ القاتلِ "حمزة" ليكونَ أداةَ التنفيذِ دون أنْ يُدرِكَ أنّهُ ككلِّ القتَلةِ المأجورينَ عبرَ التّاريخِ إنمّا كانَ أداةً عمياءَ تنفّذُ جريمةً تتقاطعُ مصالحُ أجهزةِ استخباراتٍ ودولٍ كثيرةٍ عندَ نقطةِ تنفيذِها. 

 

لمْ يكنْ أبو إياد قائداً سياسيّاً يحصرُ مجالَ عملِهِ في الشأنِ الدّاخليِّ فقط، لكنّهُ وبِحُكمِ تجربتهِ الطويلةِ في قيادةِ جهازِ الأمنِ الموحّدِ استطاعَ أنْ يقيمَ شبكةَ أمانٍ دوليّةً متراميةَ الأطرافِ تحفظُ للثّورةِ قدرتَها على العملِ الصّامتِ وتوفّرُ وسائلَ الدّعمِ السياسيِّ والأمنيِّ للفدائيّينَ أينما تواجدوا ومهما كانت المهمّةُ التي يتصدّونَ لإنجازِها. ولأنّهُ كذلكَ فقد شكّلَ هدفاً ثابتاً للعدوِّ وأدواتِهِ وفي مقدّمتهم صبري البنّا، ناهيكَ عن الأنظمةِ العربيّةِ التي كانت تخشاهُ وتحسبُ لهُ ألفَ حساب، وبذلكَ تجاوزَ أبو إيادَ نطاقَ النضالِ الوطنيِّ وتحوّلَ إلى قائدِ قوميٍّ وأمميٍّ يحظى باحترامِ قادةِ العالمِ ويثيرُ الذّعرَ في قلوبِ الكثيرين. ومن عرفَ الشهيد هايل عبد الحميد (أبو الهول) عن قُربٍ يعلمُ كيفَ جمعَ هذا القائدُ الفتحويُّ بينَ الهدوءِ والصّمتِ وبينَ العملِ الحثيثِ بدءاً من تشكيلِ قواعدِ العملِ الفتحويِّ في أوروبا ثمَّ مصرَ ولبنانَ إلى بناءِ جهازِ الأمنِ المركزيِّ وأحدِ أهمِّ أذرعِهِ الطويلةِ وهو الأمنُ الوقائيُّ. ويجبُ أنْ لا يغيبَ عن أذهانِنا أنَّ الأخ أبو الهول لحظةَ استشادِهِ كانَ مفوّضاً لجهازِ "الغربي" بعد استشهاد أمير الشهداء أبو جهاد. لقد شاءت الأقدارُ أن يستشهدَ أبو إياد وأبو الهول معاً، وأنْ يكونَ معهم الشهيد أبو محمد العمري، لتكتملَ صورةُ العطاءِ بهذا المناضلِ الذي لم يكنْ مغرماً بالأضواءِ، لكنّهُ في لحظةِ الخيارِ بين الكرامةِ والتردّدِ اختارَ أن يحمي أبو إياد بجسدِهِ ليعطي مثالاً للعلاقةِ التي تجمعُ قيادةَ الثّورةِ وفدائيّيها. لقد قيلَ الكثيرُ في الشّهداءِ الثّلاثةِ، لكنَّ ما يجبُ أن لا يغيبَ عن أذهانِنا هو أنَّ اغتيالَهم كانَ بدايةَ الحربِ المفتوحةِ ضدَّ الأمّة، وهي الحربُ التي بدأتَ بغزوِ العراقِ وما زالتْ مستمرّةً في تمزيقِ أوصالِ الوطنِ العربيِّ سعياً إلى الاستفرادِ بفلسطينَ وتثبيتِ دعائمِ دولةِ الاحتلالِ والاستيطانِ الإسرائيليِّ.

 

*لم يكنْ بمقدورِ فتح أنْ تستمرَّ في قيادةِ المشروعِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ إلا بسببِ استعدادِها الدّائمِ للعطاءِ والتّضحيةِ، لا فرقَ بينَ قائدٍ وكادرٍ أو فدائيٍّ. هذه هي فتح التي يوصينا الشهداءُ الثلاثةُ في ذكرى رحيلِهم بالمحافظةِ عليها لأنّها ضمانةُ النّصرِ وانتزاعِ الحريّةِ وتحقيقِ الاستقلالِ الوطنيِّ. 

 

١٤-١-٢٠٢٠ 

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان