بصدورِ قرارِ المدّعي العامِّ لمحكمةِ الجناياتِ الدّوليةِ، السيّدة فاتو بنسودة، الخاصِّ بفَتْحِ تحقيقٍ بشأنِ جرائمِ الحربِ التي ارتُكبت في فلسطينَ، تنتقلُ العدالةُ الدّوليةُ من مربّعِ المتفرّجِ على ما يتعرّضُ لهُ شعبُنا منذُ عشراتِ السّنينِ إلى ممارسةِ الدورِ المنوطِ بها في ملاحقةِ المجرمينَ الجناةِ حتى يؤتى بهِم إلى مكانِهم الطبيعيِّ وهو السّجنُ ولعنةُ التّاريخ. وبهذا القرارِ يتّضحُ معنى وأهميّةُ المعركةِ التي خاضَتْها منظمةُ التّحريرِ الفلسطينيّةُ لانتزاعِ اعترافِ الأممِ المتحدةِ بفلسطينَ كدولةٍ تحتَ الاحتلالِ، وتكتملُ دائرةُ الأصرارِ الذي أبداهُ السيدُ الرّئيسُ أبو مازن ومعهُ شعبُنا الصّامدُ في وطنِهِ والمتمسّكُ بحقوقهِ على تكريسِ دولةِ فلسطبنَ كحقيقةٍ قانونيّةٍ تستطيعُ الانضمامَ إلى الهيئاتِ والمنظّماتِ الدّوليةِ، وتجعلُ هذا الانضمامَ سلاحاً في يدِ شعبِنا وقيادتِهِ للدّفاعِ عن الحقِّ الفلسطينيِّ ومعاقبةِ قادةِ العدوِّ سياسيّينَ وعسكرييّن ومستوطنينَ على جرائمِهم اليوميّةِ ضدَّ شعبٍ أعزلَ محاصَرٍ من قِبلَِ قوّةِ احتلالٍ غاشمةٍ تحظى بدعمٍ مطلَقٍ من الإدارةِ الأمريكيّة التي توفّرُ للقتَلةِ والمعتَدينَ مظلةً تحميهم من المحاسبةِ والعقابِ، وتُمعنُ في المقابِلِ في إتخاذِ الخطواتِ العدوانيّةِ المتلاحقَةِ ضدَّ شعبِنا وحقوقِهِ الوطنيّة.

 

عندما بادرتْ فلسطينُ إلى رفعِ العديدِ من القضايا إلى محكمةِ الجناياتِ الدّوليةِ كانت تدركُ أنَّ للعدالةِ شروطاً ومتطلباتٍ لا بدَّ من استيفائها حتى تأخذَ مجراها وتبدأ بالتّحقيقِ الفعليِّ، فمحكمةُ الجناياتِ ليستْ بصددِ إصدارِ قرارٍ يدينُ العدوانَ الإسرائيليَّ كما يفعلُ مجلسُ الأمنِ أو غيرُهُ من الهيئاتِ الدّوليّةِ، لكنّها تقومُ بعملٍ قانونيٍّ معقّدٍ وطويلٍ حتّى تضمنَ مصداقيّتها وحيادَها ومهنيّةَ ما ستباشرهُ من تحقيقٍ. وعلينا أن نُعِدَّ أنفسَنا لعمليةٍ طويلةٍ من البحثِ والاستدعاءِ والمطالبةِ بتقديمِ الوثائقِ وطلبِ الاستماعِ إلى شهاداتٍِ لا حصرَ لها. هذا يستدعي الإسراعَ في إنجازِ مسألتينِ حيويّتَينِ: الأولى هي وضعُ خطّةٍ وطنيّةٍ فلسطينيّةٍ للتعاملِ مع التحقيقِ الدّوليِّ بشفافيةٍ ومهنيةٍ وحشدِ الدّعمِ العربيِّ والدّوليّ لهُ، والثّانيةُ هي التزامُ كلِّ القوى والحركاتِ والأحزابِ والمسؤولينَ والهيئاتِ والمؤسّساتِ الفلسطينيّةِ بالمثولِ أمامَ المحقّقينَ الدّوليّينَ في أيِّ وقتٍ. علينا أنْ لا نخشى الحقيقةَ، ويجبُ أنْ نتركَ قادةَ العدوِّ يتصبّبونَ عرقاً في جحورِ خوفِهم وأن نلتزمَ نحنِ بالقانونِ الدّوليِّ وبكلِّ ما يُطلَبُ منّا لإنجاحِ التحقيقِ، فهذهِ لحظةّ تاريخيّةٌ أُخرى يجبُ إتقانُ الاستفادةِ منها وفهمُ أبعادِها في سياقِ صراعِنا معَ العدوِّ المستمرِّ منذُ ما يزيدُ على قرنٍ من الزّمن.

 

الموقفُ الوطنيُّ الواحدُ في إطارِ الشرعيةِ وتحتَ مظلِّةِ دولةِ فلسطينَ وبقيادةِ رئيسِها الصّبورِ والعنيدِ بالحقِّ هو الضّمانةُ لتحويلِ قرارِ محكمةِ الجناياتِ الدّوليةِ إلى محاكمةٍ تاريخيّةٍ للمشروعِ الصهيونيِّ وجرائمهِ، والوحدةُ هي التي ستوفّرُ الحمايةَ لأيِّ قائدٍ سياسيٍّ أو مسؤولٍ ميدانيّ إذا تمّ توجيهُ أي اتهاماتٍ لهُ أو طُلِبَ منهُ الإدلاءُ بشهادتِه، فنحنُ عندما نعلنُ التزامَنا بالخضوعِ للتحقيقِ الدّوليِّ إنما ننطلقُ من قناعةٍ مطلقَةٍ بأنّ المجرَمَ الحقيقيَّ هو الاحتلالُ وقادَتُهُ وأنَّ شعبَنا المحاصَرَ لا يملكُ أدنى مقوّماتِ الدّفاعِ عن نفسِهِ أمامَ آلةِ القتلِ الإسرائيليّةِ. يشهدُ على ذلك عددُ الضحايا الأبرياءِ في الجانبِ الفلسطينيِّ وحجمُ الدّمارِ والخرابِ ومصادرةُ الأرضِ وإقامةُ المستعمراتِ عليها وعملياتُ الاعتقالِ والإعدامِ الميدانيِّ التي ينفّذُها جيشُ الاحتلالِ بشكلٍ منظّمٍ. كلُّ هذا يجعلُنا واثقينَ من أنّ أيَّ تحقيقٍ محايدٍ ونزيهٍ لن تكونَ نتيجتُهُ سوى إدانةِ قادةِ العدوِّ وملاحقتِهم من أجلِ جلبِهم للمثولِ أمامَ العدالةِ ووضعِهم في قفصِ الاتّهامِ، فمكانُهم الطبيعيُّ هو السّجنُ إلى جانبِ مجرمي الحربِ في جمهورياتِ يوغسلافيا السّابقةِ وقَتَلةِ الأبرياءِ في رواندا. 

 

*إلى من يظنّونَ أنّنا استنفَذْنا كلَّ أشكالِ حربِ الشّعبِ طويلةِ الأمدِ: فلسطينُ دولةٌ تحتَ الاحتلالِ لم تَنَلْ بعدُ حرّيتَها واستقلالَها، لكنّها تستطيعُ أنً تنزعَ الشّرعيةَ القانونيّةَ والأخلاقيّةَ عن دولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ وتحوّلَها إلى "دولةٍ مارقةٍ" وتجعلَ منْ قادتِها مجموعةً من المُجرمينَ الفارّينِ من وَجهِ العدالةِ الدّوليّة.

 

٢١-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد د.خليل نزّال -أمين سر حركة فتح - إقليم بولندا