اثنان وثلاثونَ عامًا مضت على انطلاقِ شرارةِ انتفاضةِ الحجارة، وهي الانتفاضةُ التي غيّرت مجرى الصّراعِ مع الاحتلالِ الاستيطانيِّ الإسرائيليِّ ونقَلتْ مركَزَ ثِقَلِهِ إلى أرضِ الوطنِ حيثُ يواجهُ الفلسطينيُّ الغزاةَ وجهًا لوجهٍ، ولا يحتاجُ إذنَ النظامِ الرّسميِّ العربيِّ كلما حاولَ الموتَ كيْ تحيا فلسطين. ومهما أسهبَ الباحثونَ في سردِ أسبابِ اندلاعِ الانتفاضةِ في الثامن من كانون الأول/ديسمبر ١٩٨٧، فإنَّ الحقيقةَ الأولى التي رسّختْها تلكَ الملحمةُ الوطنيّةُ هي أنَّ شعبَنا لم ولن يتوقّفَ عن مقاومةِ الغزوِ والاحتلالِ الصهيونيِّ، وأنّ الفلسطينيَّ يمتلكُ قدرةً فائقةً على الصّمودِ وعلى اجتراحِ المعجزاتِ وابتكارِ طرُقٍ جديدةٍ للمقاومةِ تتناسبُ معَ كلِّ مرحلةٍ من مراحلِ المسيرةِ الوطنيّةِ المستمرّةِ منذُ بدأ المستوطنون المستعمرونَ يتوافدونَ إلى فلسطينَ قبلَ ما يزيدُ على مئةِ عام. ومن يتابعْ مسيرةَ شعبِنا وتاريخَ انتفاضاتِهِ انتصارًا لوطنِهِ يخرجْ بنتيجةٍ واحدةٍ مفادُها أنَّ لدى هذا الشّعبِ من الإرادةِ والقدرةِ على مفاجأةِ أعدائهِ ما يكفي لكيْ يتملّكَهم الذّعرُ حتّى عندما يظنّونَ أنَّ التّعبَ وتكالبَ قوى الشرِّ قدْ نالتْ من عزيمةِ شعبِ الجبّارينَ أو أدخلت اليأسَ إلى قلوبِ أبنائه.

 

أربعةُ شهداءَ من جباليا هم باقةُ الوردِ الأولى في مسيرةِ انتفاضةِ الحجارةِ، سقطوا قربَ معبر بيت حانون ضحيّةً لجريمةِ سائقِ شاحنةٍ إسرائيليٍّ مسكونٍ بالخرافاتِ اجتاحَ بشاحنتهِ سيّارتَيْنِ تقلّانِ عمّالاً فلسطينيّينَ أجبَرهُم الاحتلالُ الذي يسرِقُ حرّيّتَهم وينهبُ خيراتِ وطنِهم أن يبحثوا عن مصدرِ رزقهِم في الأرضِ التي طُردَ منها آباؤهم. هذه هي اللحظةُ التي يتوقّفُ عندها التّاريخُ ويقول: هنا بدأت انتفاضةُ الحجارةِ. لقد تراكمت قائمةٌ طويلةٌ من الأسبابِ التي كانَ كلُّ واحدٍ منها بمفردِهِ كافيًا ليكونَ قاعدةَ انطلاقِ الانتفاضةِ، لكنَّ أهمَّ هذه الأسبابِ يبقى تصميمُ شعبِنا على إبقاءِ قضيّتِهِ حيّةً رغمَ أنفِ موازينِ القوى وتخاذُلِ العالمِ عن الانحيازِ إلى الحقِّ الفلسطينيِّ. ولمَنْ يشكو الآنَ من سوءِ وتردّي الوضعِ العربيِّ يكفي أن نتذكّرَ أنَّ القمّةَ العربيّةَ التي عُقِدتْ في عمّانَ في ٨-١١-١٩٨٧، أي قبلَ شهرٍ واحدٍ من اندلاعِ الانتفاضةِ، قدْ تجاهلت القضيّةَ الفلسطينيّةَ وأشغلت نفسَها بالحربِ العراقيّةِ-الإيرانيّةِ، تمامًا مثلما تشغلُ الأمّةُ اليومَ نفسَها بقَتْلِ ذاتِها في حروبِ الطوائف. 

 

لقد قيلَ الكثيرُ عن انتفاضةِ الحجارةِ ودورِها في إعادةِ الاعتبارِ إلى القضيةِ الفلسطينيّةِ بعدَ خروجِ قوّاتِ الثّورةِ من لبنانَ إلى المنافي وبعدَ محاولاتِ مصادرةِ القرارِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ التي رافقت الحالةَ الاستثنائيةَ التي عاشتْها منظّمةُ التحريرِ الفلسطينيّةُ. لكنَّ هناكَ درسينِ يجبُ استخلاصُهما من تجربةِ الانتفاضةِ والتّوقّفُ أمامَهما اليومَ، ونحنُ نعيشُ مرحلةً من أدقِّ مراحلِ النضالِ الفلسطينيِّ:

الدّرسُ الأوّلُ: لا سلاحَ يفوقُ في أهميتِهِ وجدواهُ سلاحَ الوحدةِ الوطنيّةِ، ففي ظلّها يصبحُ الحجرُ سلاحًا استراتيجيًّا يرعبُ العدوَّ ويجبرُهُ على مفاوضةِ منظمةِ التحريرِ الفلسطينيةِ، وعندما تغيبُ الوحدةُ تصبحُ الصّواريخُ سلاحًا عبثيًّا لا هدفَ لهُ سوى التغطيةِ على استمرارِ الانقسامِ الذي ولّدهُ انقلابُ "حماس" على الشرعيّةِ الوطنية.

الدّرسُ الثاني: على عدوّنا أنْ لا يركنَ إلى سرابِ الواقعِ الذي يملأُ رؤوسَ قادتِهِ بالنّشوةِ، وعليهِ أنْ يراجعَ تجربتَهُ مع شعبِنا، وسيخرجُ بنتيجةٍ واحدةٍ: إنْ لمْ توافق دولةُ الاحتلالِ والاستيطانِ على حلِّ الدّولتَين، فستجدُ نفسَها في المستقبلِ أمامَ خياراتٍ لا يمكنُ لها الآنَ أنْ تتخَيّلَها. 

 

*في الذكرى الثانيةِ والثلاثينَ لانتفاضةِ الحجارةِ يحني شعبُنا هاماتِهِ إكبارًا لأبطالِ الانتفاضةِ من الشّهداءِ والجرحى والأسرى، وفي مقدّمتِهم شهيدُ الانتفاضةِ، أميرُ الشّهداءِ خليل الوزير "أبو جهاد". 

 

٨-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان