مع بدايةِ الحربِ الأهليةِ التي شهدَتْها إسبانيّا في الفترة ما بينَ عامَيْ ١٩٣٦ و١٩٣٩ قال أحدُ القادةِ الفاشيّينَ الموالينَ للديكتاتورِ الإسباني فرانكو إنَّ قوّاتهِ تحاصِرُ العاصمةَ مدريد الخاضعةَ حينها لسيطرةِ "الجمهوريّينَ" بقوّاتٍ مؤلّفَةٍ من أربعِةِ طوابيرَ، إضافةً إلى "طابورٍ خامسٍ" داخلَ المدينةِ نفسِها. ومن هنا بدأ استخدامُ مصطلحِ "الطابورِ الخامسِ" لوَصفِ العُملاءِ والمخرّبينَ الذين يتمُّ تجنيدُهم للمساعدةِ على بثِّ الإشاعاتِ ورصدِ نقاطِ الضّعفِ والتهويلِ من قدراتِ العدُوِّ والتشكيكِ بإمكانيةِ الصّمودِ. وبينما يسهُلُ التعرّفُ على "العدوِّ" ومراقبةُ تحرّكاتِهِ فإنّ "الطّابورَ الخامسَ" يبقى جزءاً من النسيجِ الاجتماعيِّ الداخليِّ، وهذا ما يعطيهِ حريّةَ الحركةِ وسهولةَ أداءِ ما يُطلَبُ منهُ من مهمّات. ليسَ الهدفُ من هذهِ الرّسالةِ الهروبَ إلى "نظريّةِ المؤامرة" كأقصَرِ طريقٍ لتبريرِ العجْزِ والتقاعُسِ عنْ أداءِ الواجباتِ، كما أنّ تضخيمَ قدرةِ العدوِّ على اختراقِ الجبهةِ الدّاخليّةِ هو إحدى وسائلِ العدوِّ نفسِهِ في بثِّ الوَهَنِ واليأسِ في صفوفِنا، علماً أنَّ حالةَ التّداخُلِ التي نعيشُها مع المحتلِّ تعطيهِ فرصةً أكبرَ لممارسةِ مثلِ هذا الاختراقِ، وهوَ ما يجبُ التعاطي معهُ بحَجمِهِ ومن منطلَقِ فهْمِ الظاهرةِ حتى نتمكّنَ من التصدّي لها ولمخاطِرِها.

 

ما يعنينا في هذهِ العُجالةِ هو التركيزُ على الممارساتِ والظّواهرِ السّلبيّةِ التي نستطيعُ الحدَّ منها أو حتّى القضاءَ عليها دونَ أنْ نربطَ وجودَها بمَكرِ العدوِّ وعَملِهِ الدؤوبِ لتشجيعِ كلِّ ما هو سلبيٌّ في مجتمعنِا المُستَنْزَفِ يوميّاً في معركةِ الصّمودِ والبقاءِ التي يخوضُها ضدّ هذا العدوِّ، وهي معركةٌ لا أثرَ فيها للتكافؤ العسكريِّ، لكنّها خاضعةٌ لإمكانيّةِ إحداثِ توازنٍ، بل وتفوّقٍ من جانبِنا في مجالِ الوعي والحصانةِ الذّاتيّةِ والوطنيّةِ، من خلالِ التركيزِ على نشرِ ثقافةِ الصّمودِ والتفاؤلِ بحتميّةِ النّصرِ رغمَ كلِّ ما يحيطُ بنا من عواملِ اليأسِ والإحباطِ. فمَنْ يظنُّ أنّ النّصرَ قابَ قوسينِ أو أدنى وأنَّ عدمَ تحقيقِهِ الآنَ يعني هزيمَتَنا، هوَ بحاجةٍ إلى مراجعةِ منظومةِ أفكارِهِ والعودةِ قليلاً إلى تاريخِ الصّراعِ الطويلِ الذي يخوضهُ الجيلُ الخامسُ أو السّادسُ من شعبِنا، وهو صراعٌ لا يرتبطُ بحياةِ أو رغبةِ جيلٍ أو فردٍ أو مجموعةٍ معيّنةٍ، لكنّهُ مسيرةُ شعبٍ بأكملِهِ، ويمتازُ الشّعبُ عن الفردِ بأنّهُ جسمٌ حيٌّ لا يموتُ ولا يُقاسُ عمرُهُ بنفسِ المقاييسِ التي تَحكُمَ أفرادَهُ مهما كانَ موقعُهُم. من هنا يأتي شعارُ "حَربِ الشّعبِ" أو "المقاومةِ الشّعبيّة" ليصِفَ حالةَ المشاركةِ الشّاملةِ في الفعلِ المقاوِمِ وليؤكّدَ في ذاتِ الوقتِ الاستمراريّةَ غيرِ المُرتبطةِ بزمنٍ محدّدٍ كشرْطٍ لتحقيقِ النّصْر.

 

لنْ نتمكّنَ من مواصلةِ صمودِنا -وهو جزءٌ من حربِ الشّعبِ أو المقاومةِ الشعبيّةِ- إلّا بمحاربةِ الظّواهرِ التي تهدّدُ اللحمةَ المجتمعيّةَ لشعبِنا، وهنا يجبُ الانتباهُ إلى مخاطِرِ تلكَ الظّواهرِ مهما كانت درجةُ انتشارِها وخَطرِها الرّاهنِ، فكلُّ مَرضٍ يبدأ بعوارضَ بسيطةٍ، لكنّهُ قدْ يقتلُكَ إنْ لمْ تقتُلْهُ في بداياتِه. ينطبقُ هذا على ظاهرةِ تجارةِ وترويجِ وتعاطي المخدّراتِ التي تتصدّى لها الأجهزةُ المختصّةُ بشكلٍ مهنيٍّ يحظى بالتقديرِ، لكنّ المسألةَ لا تقتصِرُ على دورِ تلك الأجهزةِ فقط، وإنّما هي عمليةٌ متكاملةٌ تشاركُ فيها الأسرةُ والمدرسةُ ومؤسّساتُ المجتمعِ المدنيِّ وغيرُها من الهيئاتِ المختصّة. كما أنّ هناكَ ظاهرةً لا تقلُّ خطورةً عن سابقتِها، وهي ظاهرةُ "الإدمانِ" على نشرِ الإشاعةِ واختلاقِ الأحداثِ وترويجِ الأكاذيبِ وتزويرِ الحقائقِ، بحيثُ أصبَحنا نشهدُ حالاتٍ غريبةً عن ثقافتِنا وتقاليدِ مجتَمَعِنا من خلالِ التعرّضِ للفتياتِ والاعتداءِ والتطاولِ عليهنّ، ثمَّ يتمُّ تزويرُ حالاتِ الاعتداءِ وتوجيهُ اللّومِ لضحاياهُ بدلاً من استنكارِ الفعلِ من أساسِه. لا مكانَ للرّجولةِ عندما يتمُّ الاعتداءُ على فتاةٍ أو امرأةٍ مهما كانَ شكْلُ هذا الاعتداءِ، فالمجتمعُ القويُّ هو المجتَمعُ الذي يشعرُ كلُّ أفرادِهِ بالقوّةِ والحصانةِ ضدَّ التطاولِ على حقوقِهم وانتهاكِ كرامتِهم، وهذا ما يحتاجهُ مجتمعُنا أكثرَ من غيرِهِ، فلنْ يتمكّنَ مجتمعٌ يمارسُ الظُّلمَ ضدَّ أهمِّ مكوّناتِهِ أنْ ينتزعَ حرّيتَهُ ويبني دولتَهُ المستقلّة!

 

*لا بدَّ منْ التّصدّي لمحاولاتِ بثِّ الفوضى ونشرِ ثقافةِ التّطاولِ على القانونِ وعلى حقوقِ النّاسِ وحرمَاتِهم الشّخصيّة، فكلُّ هذه الظّواهرِ هي خناجرُ مسمومةٌ نقدّمُها مجّاناً لعدوِّنا لينْحرَ بها مشروعَنا الوطنيَّ.

٢٤-٩-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان