لا تُشبِهُ الهجرةُ الفلسطينيّةُ إلى لبنانَ مثيلاتِها إلى دولِ الجوارِ العربيّ، وإنّما هي امتدادٌ لعلاقةٍ من نوعٍ خاصّ ومميَّزٍ ربطتْ بين شمالِ فلسطينَ ولبنانَ منذُ القدِمِ. كان نهرُ الأردن حاجزاً بين ضفَّتَيْهِ، وصحراءُ سيناءَ فاصلاً قاحلاً بين مصرَ وفلسطين، وكذلكَ الأمرُ بالنسبةِ لهضبةِ الجولانِ السوريةِ وما تمثّلهُ من مانعٍ طبيعيّ بين فلسطينَ وسوريا. أما "الحدودُ" بينَ فلسطينَ ولبنانَ فلمْ تكنْ في يومٍ من الأيامِ سوى أبوابٍ مشرّعةٍ أمامَ حركةِ السكّانِ في الاتجاهينِ دونَ أنْ يشعرَ أحدٌ أنّهُ يجتازُ حدودَ بلدٍ آخرَ أو يغادرَ بلدَه. من هنا كانَ مِنَ الطبيعيّ مثلاً أن يكونَ مُلّاكُ الأراضي في شمالِ فلسطينَ من عائلاتٍ لبنانيةٍ دونَ أن يثيرَ ذلكَ حفيظةَ الفلسطينيينَ أو مخاوفَهم.

مع حلولِ النكبةِ اختارَ أهلُ الجليلِ المُجبَرون على مغادرةِ بيوتِهم أن يلجأوا إلى لبنانَ وهُم على قناعةٍ أنّهم ضيوفٌ عندَ إخوةٍ يعرفونَهم حقّ المعرفةِ وأنَّ "إقامتَهُم" عندَ إخوتهِمْ لن تطول. لسنا هنا بصددِ سردِ التاريخِ الحديثِ للوجودِ الفلسطينيِّ القسريّ في لبنانَ في فترةِ ما بعدَ النكبةِ، لكنّ أهمَّ ما يميّزُ هذا الوجودَ هو إجماعُ اللاجئينَ أنفسهِم وإجماعُ اللبنانيينَ على أنّ هذا الوجودَ مؤقّتٌ وأنّ حقّ العودةِ حقٌ واجبُ التنفيذ. لكنْ، ومعَ أهميّةِ الإجماعِ اللبنانيّ حولَ حقّ العودة، إلا أنّ التعاملَ الرسميّ اللبنانيَّ مع الوجودِ الفلسطينيّ لم يكُنْ في أيّ وقتٍ من الأوقاتِ منسجمًا مع ضرورةِ تمكينِ الفلسطينيّ من الصمودِ والعيشِ بكرامةٍ واستقرارٍ حتى يظلّ قادرًا على مواصلةِ التمسّكِ بحقّ العودة. على العكسِ من ذلك، يمارسُ المشرّعُ اللبنانيُّ أقصى درجاتِ التمييزِ والاضطهادِ ضدّ الفلسطينيِّ ويحرمُهُ من أبسطِ حقوقِهِ الإنسانيّةِ ويحوّلُ مخيّماتِهِ إلى "جيتوهات" أو معازلَ لا تتوفّرُ فيها أدنى متطلباتِ العيشِ الكريم. 

لا حاجةَ إلى القولِ أنّ العلاقةَ بينَ الشعبينِ اللبنانيّ والفلسطينيّ هي علاقةٌ مميّزةٌ بحُكمِ سنواتٍ طويلةٍ من التصدّي لأطماعِ إسرائيلَ في لبنان، لكنَّ لبنانَ الرسميّ ظلّ متمسكاً بالتعاملِ مع الوجودِ الفلسطينيّ بنفسِ الطريقةِ التي ميّزت الفترةَ التي سبقت الوجودَ الفلسطينيّ المسلّح في لبنان بكلّ ما كان في هذه الطريقةِ من استفزازٍ ونظرةٍ متعاليةٍ ليسَ لها ما يبرّرها. ويأتي قرارُ وزيرِ العملِ اللبناني المتذرّعُ بتنظيمِ العمالةِ "الأجنبية" استمراراً لنفس النهجِ في التعاملِ مع الفلسطينيين، وهو دعوةٌ للفتنةِ بين الشعبينِ، مثلما هو أيضاً تنفيذٌ عمليٌّ لخطةِ صفقةِ القرنِ و ورشةِ المنامةِ، وهو موقفٌ ينفي كلّ ما تتشدّقُ به الحكومة اللبنانيةُ والأحزابُ والقوى التي تدّعى رفضَها لصفقةِ القرنِ وتحضُّ شعبَنا على الصمودِ في وجهِها.

يحقُّ لنا أنْ نتساءلَ: ما الفائدةُ التي تجنيها القضيةُ الفلسطينيةُ من وجودِ عشراتِ آلافِ الصواريخِ لدى جهةٍ تسكتُ عن ملاحقةِ الفلسطينيّ وتضييقِ الخناقِ عليهِ وقطعِ لقمةِ عيشهِ ورزقِ أطفالِه؟