يومُ الشهيدِ الفلسطينيِّ في السابعِ من كانون الثاني/يناير ليس احتفالاً بالموتِ ولا تمجيداً لهُ، لكنَّهُ صلاةّ من أجلِ الحياةِ، ومن يظنُّ أنَّ الشّهداءَ يعشقونَ الموتَ فهو لا يفهمُ سرَّ إقدامِهم على الشّهادةِ دونَ تردّدٍ أو خوفٍ، ولا يُدرِكُ شغفَهم بالحياةِ وانحيازَهم لها. فلا شيء أغلى من الحياةِ لديهِم، ولولا عشقُهم لها لظلّوا في بيوتِهم راضين بالذلِّ والظُّلمِ والاستعبادِ والاحتلالِ الأجنبيِّ، فهذهِ هي علاماتُ الموتِ، ومن يرضى التعايشَ معها والخنوعَ لسُلطَتِها فهو المُنحازُ إلى الموتِ والمرتَجِفُ من حقّهِ بالحياةِ الحرّةِ الكريمة. لذلكَ لا يتردّدُ أبطالُ الأساطيرِ عن اختيار الخلودِ كأرقى أشكالِ الحياةِ بديلاً عن طأطأةِ رؤوسِهم وانتظارِ سكّينِ الجزّارِ. 

 

أحمد موسى، أوّلُ شهداءِ فتح، وباكورةُ عشّاقِ الحياةِ الكريمةِ التي تسرُّ الصّديقَ، اختارَ الإبحارَ في واحدةٍ من أجملِ أساطيرِ الوطنِ وأكثرِها إلهاماً للبسطاءِ من عشّاقِ الأرضِ وحرّاسِها. كانَ بإمكانِهِ أنْ يظلَّ لاجئاً ينتظرُ مِنّةَ آخرِ الشّهرِ ويعلّقَ في صدْر خيمةِ اللجوءِ بطاقةَ التّموينِ ويؤدّي لها الصلاةَ كلَّ صباحٍ. لكنَّ هذا الخيارَ، رغمَ أنّهُ يمكنُ أنْ يرجّحَ كفّةَ البقاءِ على قيدِ الحياةِ، كانَ من المُمكنِ أنْ يجرّدَ أحمد موسى من إمكانيّةِ دخولِ التّاريخِ من بوّابتِهِ المكلّلةِ بالغارِ وبذاكرةِ فلسطينَ ليتبوّأ مكانَهُ في أسطورَةِ الانطلاقةِ بكلِّ ما فيها من تمرّدٍ على الموتِ وانتصارٍ للحياةِ. ليسَ سهلاً على الإنسانِ أنْ يحفرَ اسمهُ في لحظةٍ من التّاريخِ يمكنُ رؤيتُها بالعينِ المجرّدةِ من آخرِ بقعةٍ في الكونِ، إذْ ليسَ هناكَ سوى جائزةٍ واحدةٍ يمكِنُ أنْ يفوزَ بها المتسابقونَ للحصولِ على مرتبةِ "الشّهيدِ الأوّلِّ" في تاريخِ فتح، وقد أدركَ أحمد موسى ذلكَ جيّداً، لذلكَ لم يتردّدْ لحظةً في قبولِ العرضِ الذي قدّمَهُ له الفدائيُّ الأوّلُ أبو عمار للمشاركةِ في تفجيرِ نفقِ عيلبون. كيفَ يتردّدُ وهو على يقينٍ أنّهُ يفتحُ كتابَ التّاريخِ بيدَيْهِ لينقشَ اسمهُ في أولى صفحاتِهِ؟ 

 

فتح دعوةٌ متواصلةٌ للتشبّثِ بالحياةِ، ولذلكَ دأبتْ على منحِ فدائيّيها فرصةَ تسجيلِ أسمائهم في سجلِّ الخالدينَ الأحياءَ، ليس فقط لأنّهم ضحّوا بأنفسِهم، ولكن لأنّهم يوفّرونَ لشعبِهم فرصةَ الحياةِ التي يستحقُّها. هكذا كانت انطلاقةُ فتح وكلُّ مسيرتِها الطويلةِ في قيادةِ النّضالِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ، فقد ظلَّت متمسّكةً بخيارِ الانحيازِ للحياةِ وتمجيدِها، وظلّتْ دوماً على استعدادٍ للدفاعِ عنْ حقِّ الشّعبِ والوطنِ بالحريّة، فالحريّةُ هي شرطُ الحياةِ وعنوانُها، وكلُّ ما قدّمتْهُ فتح ومن خلفِها الشّعبُ الفلسطينيُّ من التضحياتِ وقوافلِ الشّهداءِ ليس سوى انتصارٍ للحريّةٍ وإعلاءٍ لثقافةِ العيشِ الكريمِ لشعبٍ حرٍّ في وطنٍ حرٍّ. هذا هو معنى احتفاءِ فتح بيوم الشّهيد، فهو تمجيدّ لذكرى أحمد موسى وقرارِهِ التاريخيِّ بافتتاحِ سجلِّ الخالدينَ في مسيرةِ الثّورةِ الفلسطينيّةِ المعاصرةِ، وهو فرصةّ لتذكيرِ أنفُسِنا أنّ الفضلَ في كلِّ ما انتزعناهُ من اعترافٍ دوليٍّ بحقّنا بالحياةِ الحرّةِ الكريمةِ في دولةٍ حرّةٍ مستقلّةٍ إنّما يعودُ بالدّرجةِ الأولى إلى إيمانِ قوافلِ الشّهداءِ بأنَّ مسيرةَ الشّعبِ نحو الحريّةِ تستحقُّ أنْ يضحّي من أجلِها من اختارَ الحياةَ في ذاكرةِ الشّعبِ والوطن.

 

*أحمد موسى عنوانُ الصفحةِ الأكثرِ إشراقاً في تاريخِ "فتح"، صفحةِ الشّهداءِ، ومن حقّهِ علينا أنْ نصونَ ذكراهُ ونخلّدَهُ في ذاكرةِ شعبِنا حتى يأتي اليومُ الذي نطلِقُ فيه اسمَهُ على أحدِ شوارعِ القُدس. 

 

٧-١-٢٠٢٠

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان