لم يكُن المشروعُ الصهيونيُّ في بداياتِهِ عندما قرّرتْ مجموعةٌ من الفدائيّينَ الشُّجعانِ تأسيسَ حركةِ "فتح" ثُمَّ إعلانَ الكفاحِ المسلّحِ في الفاتحِ من كانون الثاني/يناير ١٩٦٥، لكنَّ هذا المشروعَ كانَ في أشدِّ مراحلِهِ خطورةً وتهديدًا للوجودِ الفلسطينيِّ. صحيحٌ أنَّ جزءًا من أرضِ فلسطينَ لمْ يكنْ قدْ وقعَ بعدُ في قبضةِ الاحتلالِ الإسرائيليِّ، لكنَّ الواقعَ المحيطَ بفلسطينَ لم يكنْ مبشّرًا بالخيرِ، فالشّعبُ الفلسطينيُّ المُغَيَّبُ منذُ النّكبةِ لا يتعاملُ معهُ أحدٌ إلّا بصفتِهِ مجموعاتٍ متناثرةً من اللاجئينَ الّذينَ يسعى المجتمعُ الدوليُّ إلى التّكفيرِ عن جريمتِهِ بحقّهم من خلالِ توزيعِ أكياسِ الدّقيقِ وحصصِ الزّيتِ وترسيخِ صورةِ اللاجئِ والمخيّمِ كمصيرٍ محتومٍ لهذا الشعبِ لا يملكُ أحدٌ إمكانيّةَ تغييرِه. في المقابِلِ كانَ الحالُ في العالمِ العربيِّ المشغولِ بخلافاتِهِ وصراعاتِهِ الدّاخليّةِ يُنذِرُ بإضاعةِ ما تبقّى من فلسطينَ غيرَ آبهٍ بالخطرِ المُتعاظمِ الذي تشكّلهُ الدّولةُ الصهيونيّةُ على الأمّةِ بأسْرِها، والذي كانت المشاركةُ الإسرائيليّةُ في العدوانِ الثّلاثيِّ ضدَّ مصرَ عام ١٩٥٦ تعبيرًا صارخًا عنهُ وعن الدّورِ الذي أنيطَ بالكيانِ الدّخيلِ القيامُ بهِ بصفتِهِ أداةَ الاستعمارِ الغربيِّ ويدَهُ الطويلةَ كلّما أرادَ العبثَ بالأمنِ القوميِّ العربيّ. كانَ الفدائيّون المؤسّسونَ يدركونَ كلَّ ذلكَ، ولهذا لم يقدّموا للشّعبِ الفلسطينيِّ وعدًا بنصرٍ قريبٍ سهْلِ المنالِ قليلِ التكلفةِ، بلْ وجّهوا لهُ دعوةً للمشاركةِ في مسيرةٍ طويلةٍ في إطارِ حربِ الشّعبِ طويلةِ الأمدِ، وضمّنوا كلَّ تفاصيلِ مشروعِ التحرّرِ الوطنيِّ الذي آمنوا بهِ في شعارٍ واحدٍ واضحٍ يمثّلُ برنامجَ الثّورةِ وبوصلتَها: "ثورةٌ حتّى النّصر".

 

لمْ يَدخل الخوفُ ولا اليأسُ أو التردّدُ قلوبَ الفدائيّينَ عندما حلّت بالأمّةِ هزيمةُ الخامسِ من حزيران/يونيو ١٩٦٧ وأصبحت فلسطينُ بكاملِها تحتَ الاحتلالِ الإسرائيليِّ، لكنَّ حركةَ "فتح" سارعتْ إلى إعادةِ رسمِ أولويّاتِها، فدخلَ مقاتلوها وعلى رأسِهم الفدائيُّ الأوّلُ أبو عمّار أرضَ الوطنِ، وبدلاً من كَيلِ الشّتائمِ للجيوشِ العربيةِ راحوا يَجمَعُونَ ما خلّفَتْهُ هذه الجيوشُ وراءها من أسلحةٍ وعتادٍ، وباشروا بتنظيمِ وتجهيزِ وتدريبِ خلايا المقاومةِ ضدِّ المحتلِّ، دونَ إهمالِ بناءِ القواعدِ الارتكازيّةِ على تخومِ الوطنِ. وليسَت مصادفةً أنْ تتمكّنَ حركةُ "فتح" ومعها فصائلُ المقاومةِ وأبطالُ الجيشِ العربيِّ الأردنيِّ من إلحاقِ الهزيمةِ بالجيشِ الإسرائيليِّ "الذي لا يُقهَرُ" عندما قرّرَ الفدائيّونَ حفْرَ أسمائهم فوقَ صخورِ التّاريخِ واختاروا بلدةَ "الكرامةِ" شرقَ نهرِ الأردنِ مكانًا يبداُ منهُ التقويمُ الفلسطينيُّ الجديدُ. كانَ كلُّ ما حَولَ الفدائيّينَ يحثّهم على تجنّبِ مواجهةِ جيشِ موشي ديان الخارجِ للتوِّ من انتصارٍ استعراضيٍّ خاطفٍ في حربِ "الأيامِ الستّةِ"، لكنْ أنّى للفدائيّينَ أنْ يتراجعُوا أمامَ الغُزاةِ وهم الذينَ تعاهدوا أمامَ اللهِ والشّعبِ والوطنِ والتّاريخِ على تلبيةِ نداءِ "فتح" كلّما ذكّرتْهُم بوعدِهم الذي نَذَروا أنفسَهُم لتحقيقِهِ عندما أقسموا: "ثورةٌ حتّى النّصر". 

 

ليسَ في تاريخِ مسيرةِ "فتح" والثّورةِ الفلسطينيّةِ المعاصِرةِ مرحلةٌ يمكنُ أن ندّعي أنّها كانتْ خاليةً من الألغامِ والمصاعبِ والحِصاراتِ المتتاليةِ، وقد خاضت الثّورةُ كلَّ معارِكِها وحيدةً دونَ دَعمٍ أو إسنادٍ حقيقيٍّ من أحدٍ، ولا حاجةَ بنا إلى إعطاءِ الأمثلةِ، فالتجربةُ الفلسطينيّةُ مليئةٌ بصرخاتِ "يا وَحْدَنا" وبمرارةِ خذلانِ ذوي القُربى، لكنّها تجربةٌ قادتْها "فتح" بمنطقٍ لا يقبلُ التّراجعَ أمامَ العدوِّ. هكذا قرّرت "فتح" الصّمودَ في الكرامةِ وبيروتَ وطرابلس، وهكذا قادت انتفاضاتِ شعبِنا ضدَّ المحتلِّ. إنّها تجربةٌ تثبِتُ قدرةَ الثّورةِ على قهرِ المستحيلِ والانتقالِ من حقلِ ألغامٍ إلى آخرَ ومن منفى إلى منفى حتّى وصلتْ برجالِها ومؤسّساتِها إلى أرضِ الوطن. والويلُ لِمَنْ يظنُّ أنَّ محطّةَ "السّلطةِ الوطنيّةِ" هي نهايةُ الرّحلةِ! فمن لديهِ شكٌّ في حتميّةِ مواصلةِ المسيرةِ ما عليهِ سوى مراجعةِ أهدافِ "فتح" التي أكدَّها مؤتمرانِ عقدَتْهُما الحركةُ في الوطنِ رغمَ أنفِ الاحتلالِ. أمّا من تسلّلَ بعضُ اليأسِ إلى صَدرِهِ فليُنصتْ إلى الرئيسِ أبو مازن وهو يحثُّ على تصعيدِ المقاومةِ الشّعبيةِ، أو فليُحدّقْ قليلاً في صُوَرِ الشّهداءِ وفي مقدّمتِهم الفدائيُّ الأوّلُ أبو عمّار وإخوتُهُ ورفاقُ دَربِهِ من الفدائيّينَ المؤسّسينَ. عندها سيدرِكُ كيفَ تمارسُ "فتح" دورَها في قيادةِ الشّعبِ وكيفَ تفهمُ واجبَها في الحفاظِ على المشروعِ الوطنيِّ دونَ أنْ يغيبَ عن ناظرَيْها الوعدُ الذي قطعتْهُ على نفسِها عندما أطلقت رصاصتَها الأولى مناديةً أبناءَ شعبِها إلى المشاركةِ في مسيرةٍ طويلةٍ قد يكونُ اسمَها "حربُ الشّعبِ طويلةُ الأمَدِ" أوْ "مقاومةّ شَعبيّةٌ" أو صُمودٌ في وجهِ "صفقةِ القَرن"، أو محاكمةٌ لمجرمي الحربِ من قادةِ العدوِّ أمامَ محكمةِ الجناياتِ الدّوليّةِ. تتبدَّلُ الأدواتُ وتتطّورُ، لكنّها تبقى مكرَّسةً لتحقيقِ الحُلمِ وتجسيدِ الفكرةِ التي ضحّى في سبيلِها الفدائيّونَ وهُمْ يُردّدُون: "ثورةٌ حتّى النّصر".

 

*تفهمُ حركةُ "فتح" قوانينَ الصّراعِ معَ الأعداءِ جيّدًا وتُتقِنُ إدارَتَهُ، فهي لا تَغرقُ في الوَهْمِ، بلْ تُدرِكُ أنَّ أعداءَ شعبِنا يمتلكونَ من عواملِ القوّةِ ما يكفي لإطالةِ عُمْرِ الاحتلالِ وإعاقةِ مسيرتِنا نحوَ الحريّةِ، لكنّهم لا يستطيعونَ تغييرَ مَجرى التّاريخِ الذي خطَّ فدائيو "فتح" صَفحتَهُ الأولى برصاصِ قوّاتِ العاصفةِ في ١-١-١٩٦٥ وكتبوا فيها وَعْدَهُم لِشَعْبِهم: "ثورةٌ حتّى النّصر". 

 

١-١-٢٠٢٠

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان