لا يتوقّفُ الفلسطينيُّ طويلاً فوقَ أطلالِ الماضي ولا أمامَ أصنامِ تردّدِ وتخاذُلِ القريبِ والبعيدِ عنْ تقديمِ الدّعمِ لقضيّةٍ لا يجادِلُ في عدالَتِها سوى منْ فقدَ البصيرةَ أو جرّدَ نفسَهُ من أبسطِ ضوابطِ الأخلاقِ والإنسانيّةِ. وعلى الرّغمِ من إحساسِ الفلسطينيِّ "بالظّلمِ التاريخيِّ" الذي تعرّضَ لهُ وتسبّبَ بسلسلةٍ لا تنتهي من نكباتِهِ ومعاناتِهِ، فقد حاولَ أنْ يتجاوزَ هذا الظُّلمَ ويجعلَ منهُ منصّةِ انطلاقِهِ نحو المستقبلِ بكلِّ ما فيهِ من آفاقِ التّفاؤلِ والثّقةِ بالنّفسِ. ولعلَّ ما يعطي الروايةَ الفلسطينيّةَ بُعدَها الإنسانيَّ الأكثرَ وضوحاً هي قُدرَتُها على إيجادِ صيغةٍ لضبطِ حدودِ المستقبَلِ قادرةٍ على احتواءِ الألمِ وتجاوزِهِ. فالظّلمُ التّاريخيُّ ليسَ محطّةً تشلُّ الحركةَ وتقتلُ القدرةَ على إعمالِ الفِكْرِ، لكنّها دعوةٌ مستمرّةٌ لتجسيدِ مبدأ الثّورةِ على الواقعِ، وهي ثورةٌ لا تعرفُ التّوقفَ حتى تُنجزَ هدفَها المحدّدَ، وهو النّصرُ. لهذا اختصرَ شعبُنا الوسيلةَ والإطارَ والهدَفَ في جملةٍ واحدةٍ مختصرَةٍ لا تحتمِلَ سوى تفسيرٍ واحدٍ: "ثورةٌ حتّى النّصر".

 

ليست الثّورةُ انتقاماً من الماضي، ولا حتّى من العدوِّ نفسهِ، لكنّها مشروعٌ إنسانيٌّ متكاملٌ موجّهٌ نحوَ الشّعبِ ولا يضعُ أحداً غيرَهُ في الحسبانِ. فالعملُ الثّوريُّ هو مشروعٌ ذاتيٌّ هدفُهُ تجاوزُ حالةِ التردّدِ واليأسِ المُرافقَينِ للنّكبةِ وما رافقَها من شعورٍ بالهزيمةِ، والانتقالُ بالشّعبِ إلى مرحلةِ تلمّسِ مواطنِ قوّتِهِ وتعزيزِها والبناءِ عليها. وليسَ هناكَ ما يفوقُ الجانبَ الإنسانيَّ في استنهاضِ ثقةِ الشّعبِ بنفسِهِ. فالحريّةُ واستعادةُ الوطنِ والعودةُ إلى البيتِ ليست عمليةً انتقاميّةً أو قصاصاً من أحدٍ، لكنّها استكمالٌ لشروطِ ممارسةِ الشّعبِ لحقّهِ في التفرّغِ للمشاركةِ في إثراءِ التراثِ والثّقافةِ والحضارةِ الإنسانيّةِ. ليسَ الاحتلالُ والغزوُ الأجنبيُّ سوى تجريدٍ للشّعبِ من حقّهِ الطبيعيِّ في العنايةِ بشخصيّتهِ الوطنيّةِ بكلِّ ما فيها من تمايزٍ عن غيرهِ من الشعوبِ والأممِ، وهذا هو الشرطُ الأوّلُ لمشاركةِ الشعوبِ الأخرى في مسيرةِ البناءِ والتطوّرِ الإنسانيِّ.

 

لقد خصّصت الثّورةُ منذُ انطلاقتِها جهدَها المركزيَّ نحوَ تحقيقِ الأهدافِ السياسيّةِ التي تكفلُ تحقيقَ الإطارِ الحاضنِ للشخصيةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ، وهو إطارُ الدّولةِ صاحبةِ السّيادةِ على الأرضِ وحاميةِ حقِّ المواطنِ بالحريةِ وحقِّ الشّعبِ بالأمنِ والتطوّرِ صمنَ حدودِ وطنِهِ. وفي سبيلِ تحقيقِ هذا الهدفِ لم تتردّدِ الثورةُ ومعها الشّعبُ عن تقديمِ التضحياتِ وتحمّلِ المصاعبِ ودفعِ ثمنِ المواجهاتِ المستمرّةِ مع قوى الأعداءِ. هكذا تفهمُ الثّورةُ دورَها الرائدَ في ترسيخِ البُعدِ الإنسانيِّ لأهدافهِا عبرَ إشراكِ الشّعبِ في العمليةِ النّضاليةِ المتواصلةِ بما تحملهُ من تحوّلاتٍ في الفكرِ وتطويرٍ لنظرةِ الإنسانِ إلى نفسِهِ، فالمناضلُ يساهمُ ببناءِ ذاتِهِ عبرَ مشاركةِ الآخرينَ في تحقيقِ الهدفِ المشتركِ وهو الحريّةُ بصفتِها أرقى أشكالِ تجلّي البعدِ الإنسانيّ للثورة. ورغمَ انشغالِ الثّورةِ بالمعاركِ المتواصلةِ لكنّها لمْ تهمِلْ ولو للحظةٍ دورَها الإنسانيَّ المباشرَ، سواءً نحوَ شعبِها أو فيما يخصُّ واجبَ تقديمِ العونِ والمساعدةِ للشعوبِ الأخرى التي تعرّضتْ مثلَ شعبِنا للظّلمِ والاحتلالِ الأجنبيِّ. من هنا كان الاهتمامُ بالثقافةِ وإبرازِ دورِ الشعراءِ والكتّابِ والفنانينَ بكلِّ اختصاصاتِهم، وهو دورٌ ميّزَ الثورةَ الفلسطينيّةَ عن غيرِها. وهنا لا بدَّ من الإشارةِ إلى مجالٍ حيويٍّ من مجالاتِ اهتمامِ الثّورةِ بالإنسانِ، وهو مجالُ التعليمِ وتوفيرِ عشراتِ آلافِ المنحِ الدّراسيّةِ للطلبةِ الفلسطينيينَ، وهو ما شكّلَ ثورةً أخرى في التركيبةِ الاجتماعيّةِ لشعبِنا عبرَ توفيرِ فرصةِ الحصولِ على التعليمِ العالي المجّاني للفقراءِ بعدَ أن كانَ ذلكَ محصوراً بأبناءِ العائلاتِ الغنيّةِ. هكذا تفهمُ الثّورةُ دورَها: إنها عمليةُ نضالٍ متواصلٍ وتطويرٍ لا يتوقّفُ لأدواتِ بناءِ ثقةِ الفردِ والشّعبِ بنفسهِ وبالمستقبَل.

 

*الثّورةُ هي الخلاصُ من الظّلمِ والانطلاقُ نحو الحريّةِ، وهذا هو التجسيدُ الفعليُّ للشخصيةِ الوطنيّةِ بكلِّ ما فيها من قدرةٍ على العطاءِ وبناءِ الثّقةِ بالمستقبلِ. والثورةُ لا تعرفُ التوقّفَ قبلَ تحقيقِ الهدفِ، إنّها "ثورةٌ حتّى النّصر".

 

٢٨-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان