احتارَ العلماءُ والفلاسفةُ منذ قرون في الإجابةِ على سؤالٍ: من أين جاءَ الإيثار، وهل يمكنُ للإنسانِ أن يتصرفَ بنكرانٍ للذّاتِ بشكلٍ فطريّ؟ وما تأثيرُ التربيةِ على تنميةِ فضيلةِ التعاطفِ مع الآخرِ لدرجةِ إيثارِهِ على الذّاتِ؟ ثمَّ هل الإيثارُ نفسهُ جزءٌ من تطوّرِ المخلوقاتِ أم أنه صفةٌ مرتبطةٌ بالنّوعِ البشريِّ ونتاجٌ للثقافة والعواملِ الاجتماعيةِ؟ لم يتوقّفْ علماءُ النفسِ والاجتماعِ عن البحثِ عن إجاباتٍ لكلّ هذه الأسئلة. ما الذي يكمنُ إذن وراءَ مفهومِ الإيثارِ بصفتِهِ نقيضَ الأنانيّةِ المرتبطةِ بغريزةِ الصراعِ من أجلِ البقاء؟ مصطلحُ الإيثار (Altruism) مشتقٌّ من اللغة اللاتينية، وأصلُهُ هو تعبيرُ (Alter) أي "الآخرُ" أو "الغيرُ". وبذلكَ يمكنُ فهمُ دلائلِ هذا المصطلحِ بأنّهُ استعدادٌ لا مشروطٌ للتخلّي عن الذّاتِ لصالحِ الآخرين، وهو بذلكَ نقيضُ الأنانية لأنَّ الأخِيرةَ ببساطةٍ تعني وَضْعَ المصلحةِ الشخصيةِ أولاً وإخضاعَ احتياجاتِ الآخرينَ لها.

 

يُغفِلُ الباحثونَ الغربيّونَ دورَ الأديانِ السّماويةِ والفلسفاتِ الإنسانيّةِ في تنميةِ خصلةِ الإيثارِ لدى الإنسانِ، ويدّعونَ أنَّ بدايةَ الأبحاثِ العلميةِ التي حاولت فهمَ هذهِ الخصلةِ ودراسةَ أسبابِها وخصائصِها كانت مع بداياتِ القرن التاسعِ عشرِ وظهورِ المذهبِ "الإيجابيِّ" في الفلسفةِ. ويقولُ أحدُ روّادِ هذا المذهبِ، وهو الفيلسوفُ وعالِمُ الاجتماعِ الفرنسيُّ Auguste Comte إن الإيثارَ هو توجيه الإنسانِ لطاقتِهِ وجهدهِ طواعيةً لخدمةِ الآخرينَ والقدرةُ على التخلّي عن الذّاتِ لصالحِ المحتاجين. هذا التعريفُ المثاليُّ يتناسبُ معَ الحقبةِ التاريخيةِّ التي عاشَ فيها العالِمُ الفرنسيُّ الذي يُنسبُ إليهِ البدءُ بدراسةِ هذهِ الظاهرةِ الاجتماعيةِ بشكلٍ علميٍّ. لكن علماءَ النفسِ المعاصرينَ يحاولونَ الاستفادةَ من إنجازاتِ العلومِ المختلفةِ لصياغةِ نظرياتٍ جديدةٍ تفسّرُ الإيثار وتجعلُ منهُ مادّةً خاضعةً لقوانينَ محدّدةٍ تسهّلُ فهمَهُ وتساعدُ على تنميتِهِ.

 

 الإيثار هو رديفٌ للخيرِ والفضيلةِ، لكنّهُ يمكنُ أن يتحوّلَ إلى ظاهرةٍ خطيرةٍ. فقد أظهرت الأبحاثُ أنَّ الأشخاصَ الذينَ يضحّونَ بأنفسهِم من أجلِ الآخرينَ قد يدفعونَ مقابلَ ذلكَ ثمناً باهظاً من المعاناةِ والارهاقِ. فالمبالغةُ في الإيثارِ الشديد قد تؤدي إلى إهمالِ الذّاتِ وعدمِ ايلاءِ العائلةِ والأصدقاءِ ما يستحقّونهُ من رعايةٍ واهتمامٍ. ويؤكّدُ علماءُ النفسِ أنَّ النزعةَ المفرطةَ إلى التخلّي عن الذّاتِ لصالحِ الآخرين يمكنُ أن تترافقَ مع تفاقُمِ المشاكلِ الشخصيةِ، لذلكَ يشدّدُونَ على ضرورةِ التمسّكِ بالاعتدالِ وعدمِ المبالغةِ في إهمالِ الإنسانِ لاحتياجاتِهِ ولِمَنْ حولَهُ، فالأقرَبونَ أوْلى بالمعروفِ، لأنّ الإسرافَ في تفضيلِ احتياجاتِ الإخرينَ على احتياجاتِ الفردِ قد يؤدّي إلى نتيجةٍ عكسيةٍ تجعلُ منهُ إنساناً غيرَ قادرٍ على مساعدةِ غيرهِ ولا على العنايةِ بذاتِه.

 

مع اشتدادِ بردِ الشتاءِ يبرزُ دورُ وأهميّةُ الإيثارِ وحبِّ مساعدةِ المحتاجِ، فالواجبُ الأخلاقيُّ والإنسانيُّ يستدعي استنفارَ كلِّ ما فينا من مَواطنِ الخيرِ للبحثِ عن العائلاتِ "المستورةِ" والأشخاصِ الذين يعيشونِ لوحدِهم، وعن المرضى والعجزةِ وكبارِ السنِّ، لأنَّ هؤلاءُ مسؤوليّةٌ جماعيةٌ يجبُ الاهتمامُ برعايتِهم ليسَ فقط من قِبَلِ المؤسساتِ الحكوميّةِ والأهليّةِ المتخصّصة، وإنما وقبل أيّ أحدٍ آخر من قبَلِ الناسِ العاديّينَ سواءً كانوا جيراناً أو أفرادَ عائلةٍ أو غرباء. فلا يوجدُ عُذرٌ للتقاعسِ عن تقديمِ العونِ لمحتاجٍ، وهذا هو مقياسُ إنسانيّتنا وانتمائنا للشّعبِ والبلدةِ والحارةِ والعائلة. هكذا تُعلّمنا ثقافتُنا وعاداتُنا ومعتقداتُنا التي جعلتْ منْ فعلِ الخيرِ صنواً للإيمانِ ومن مساعدةِ الضعيفِ والمحتاجِ والفقيرِ وسيلةً لتهذيبِ النفسِ وتنقيتِها من داءِ الأنانيّةِ وسمومِ الطّمعِ والجشعِ وحبِّ الذّات.

 

*ليسَ هناكَ إيثارٌ يفوقُ في نقائهِ وصدقِهِ الاستعدادَ للتضحيةِ في سبيلِ الوطنِ أو دفاعاً عن كرامةِ وحريّةِ الآخرينَ، وهو الأيثارُ الذي يرقى إلى مصافِّ التضحيةِ اللامشروطةِ والتي لا تنتظرُ مقابلاً، فلا يوجدُ "ثمنٌ" يمكِنُ أنْ يقدّمَهُ الوطنُ للفدائيِّ يوازي حجمَ تضحيتهِ سوى بمقابلٍ أخلاقيٍّ يخلّدُهُ في ذاكرةِ الشّعبِ ويخطُّ أسمَهُ في أبهى صفحاتِ تاريخِه.

 

٢-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان