رغم مرورِ ما يزيدُ على مئةِ عامٍ على كتابتهِ، ما زالَ كتابُ "سيكولوجيا الجماهير" لمؤلّفهِ الفرنسي غوستاف ليبون Gustave Le Bon أهمَّ المراجعِ العلميّةِ لدراسةِ ظاهرةِ "الجماهيرِ" بصفتِها واحدةً من أهمِّ الظّواهرِ التي رافقت تطوّرَ المجتمعاتِ من جهةٍ، وكانت سببًا في تفكّكِها أو تطوّرِها من جهةٍ أخرى. الكاتبُ عالِمٌ فرنسيٌّ مختصٌّ بعلمِ النفسِ عمومًا وبعلمِ النفسِ الاجتماعيِّ على وجهِ التّحديدِ، ويعتبَرُ كتابهُ المختَصرُ "سيكولوجيا الجماهير" الذي صدرَ عام ١٨٩٥ خلاصةَ أفكارِهِ المرتكزةِ إلى البحثِ العلميِّ بعيدًا عن معتقداتِهِ الشّخصيّةِ. فعلى الرّغمِ مما عُرِفَ عنهُ من الإلحادِ فإنَّه لمْ يُغفِلْ دورَ الدِّينِ والمُعتقداتِ وأثرَهما الإيجابيَّ في تطوّرِ المجتمعاتِ والحفاظِ على وحدتِها وتماسُكِها. كما أنَّ نظرتَهُ النّقديّةَ لانتشارِ "ديانةِ" الديمقراطيّةِ والمساواةِ بين الأفرادِ وخاصّةً في مجالِ الحقِّ الانتخابيِّ لمْ تَحُلْ دونَ استخدامِ العلمِ والعقلِ لتفسيرِ الظّواهرِ المرافقةِ لبزوغِ فجرِ هذا "الدّينِ" الذي عمَّ في المجتمعاتِ الغربيةِ مع نهايةِ القرنِ التاسعِ عشرِ وبدايةِ القرنِ العشرين.

 

أهمُّ ما يرتكزُ إليه الكتابُ هو التمييزُ الحادُّ بين نفسيةِ أو سلوكِ الفرْدِ وبينَ سلوكِ "الجمهورِ" أو "التجمّعِ" أو "الحَشْدِ" مهما كان شكلُهُ وأهدافُهُ، فالجمهورُ ليسَ مجرّدَ حصيلةٍ لمجموعِ الأفرادِ المشاركينَ فيه، لكنّهُ جسمٌ مستقلٌّ بذاتِهِ تحرّكُهُ فكرةٌ عليا أو هدفٌ محدَدٌ. ولعلَّ ما يلفتُ النّظرَ هنا هو الوصفُ الدّقيقُ لخصائصِ الجمهورِ وأوّلُها هو قابليّتُهُ "الفطريةُ" للتلاعبِ بعواطفِهِ وللتحكّمِ بتوجهاتِهِ والانقيادِ لشعاراتٍ وأهدافٍ متغيّرةٍ لا تتركُ مجالاً للتفكيرِ العقلانيِّ لكلِّ فردٍ من أفرادِهِ. هذا يلغي عمليًّا دورَ الفردِ ويحوّلهُ إلى جزءٍ مسلوبِ الإرادةِ لا يملكُ القدرةَ على التأثيرِ فيما حولَه. والاستثناءُ الوحيدُ هنا همُ الأفرادُ الذين يتمتّعونَ بقدرةٍ فائقةٍ على التأثيرِ في الجمهورِ وقيادتِهِ وتوجيهِهِ بالشكلِ الذي يتماشى معَ أهوائهم، مع ملاحظةِ أنَّ شرْطَ امتلاكِ القُدرةِ على قيادةِ الجمهورِ هو مخاطبتُهُ بما يُرضيهِ ويتوافقُ مع "روحِ الجماعةِ"، وإذا كانَ لا بدَّ من طرحِ أفكارٍ جديدةٍ فلا يمكنُ لها أن تكونَ بعيدةً عن معتقداتِ الجمهورِ أو عن الفكرةِ العُليا التي تحرّكُه.

 

من يقرأ الكتابَ الآنَ سيستغربُ من دقّةِ التنبّؤاتِ التي ضمّنها المؤلفُ بينَ صفحاتِ كتابِهِ حولَ مستقبلِ البشريةِ في القرنِ العشرين، وهو القرنُ الذي شهدَ صعودَ نجمِ الأنظمةِ الشّموليةِ واندلاعَ حربَيْنِ كونيّتَينِ وسلسلةَ الجرائمِ التي ارتكبَها الاستعمارُ في الدولِ الفقيرةِ. كلُّ هذا جرى في ظلِّ مشاركةِ "الجماهيرِ" وموافقتِها، بلْ ومطالبتِها أحيانًا بالمزيدِ من القتلِ والتدميرِ، دونَ أنْ تُدرِكَ أنّها تدمّرُ ذاتَها أيضًا. فالجمهورُ لا يفكّرُ إنما يسيرُ بشكلٍ غريزيٍّ خلفَ عواطفِهِ مسكونًا بالفكرةِ العليا التي تجمّعَ حولَها، وهذا ما يلغي دورَ الفردِ ويجعلُهُ مجبرًا على التخلّيِ عن استقلاليّتِهِ وعلى التكيّفِ مع "روحِ الجماعةِ" والعملِ في نطاقِها.

 

على الرّغمِ من الصّورةِ القاتمةِ التي يرسمُ الكاتبُ تفاصيلَها بأمانةٍ علميةٍ وبدقّةِ الباحثِ الملتزِمِ بالحقيقةِ، فإنَّه يحاولُ أن يضعَ تصوّرًا للوسائلِ التي يمكنُ أن تساهمَ في الحدِّ من التأثيرِ السلبيِّ لظاهرةِ "الجماهيرِ". أوّلُ وأهمُّ هذه الوسائلِ هو وعيُ كلِّ فردٍ لحقيقةِ كونِهِ معرّضًا للمشاركةِ في تجمّعٍ جماهيريٍّ والخضوعِ للقوانينِ التي تحكمُ هذا التجمّعِ، فالوعيُ بأنّ المشاركةَ ظاهرةٌ شاملةٌ والمعرفةُ بالقوانينِ التي تتحكّمُ بالجمهورِ وتسيّرهُ يمكنُ أنْ تساهمَ في تعزيزِ المناعةِ الفرديّةِ ضدَّ الانسياقِ وراءَ نداءِ الجمهورِ والخضوعِ لروحِ الجماعة. كما يحدّدُ الكاتبُ المجالاتِ التي يجبُ فهمُ دورِها جيّدًا في التأثيرِ على عجلةِ "الجماهيرِ" التي ما إنْ تبدأ بالدّورانِ حتّى يفقدَ الأفرادُ قدرَتَهم على التأثيرِ في مسارِها، تمامًا مثلما يفقدونَ إمكانيةَ التأثيرِ على قوّةِ الأعاصيرِ وشدّةِ الزلازل. يركّزُ الكاتبُ على ضرورةِ إعادةِ النّظرِ في الرّواياتِ التّاريخيّةِ السائدةِ والتي تشكّلُ دافعًا ومحرِّكًا رئيسًا لحركةِ الجماهيرِ، فالتّاريخُ أيضًا صنعهُ "الجمهورُ" الذي لا يملكُ القدرةَ على التّفكيرِ ويتصرّفُ بشكلٍ غريزيٍّ. كما يطالبُ الكاتبُ بإعادةِ النّظرِ في وسائلِ التّعليم ومناهجهِ التي تركّزُ على الأهدافِ الجماعيّةِ وتتناسى دورَ الفردِ واستقلاليّتَهُ، وهو ما يؤدّي إلى تجريدِهِ من مقوّماتِ الصمودِ أمامَ خطرِ "الجمهورِ" أو "الحشدِ الجماهيريِّ". ولا يغفلُ الكاتبُ الدّورَ المحوريَّ الذي يقومُ به القادةُ السياسيّونَ والنّقابيّونَ في تحريضِ الجماهيرِ وإثارةِ غرائزِها ومخاطبتِها بما ترغبُ في سماعِهِ، وهو ما يؤدّي في النهايةِ إمّا إلى فقدانِ السيطرةِ عليها أو إلى إخضاعِها لأهواءِ القادةِ ذوي الميولِ "الديكتاتورية". وفي الحالتَيْنِ يكمنُ الخطرُ الحقيقيُّ الذي دقَّ الكاتبُ ناقوسَ الخطرِ محذّرًا ممّا سيجرّهُ على البشريةِ من كوارثَ وأهوال.

 

*تنتقلُ كلُّ أمّةٍ وهي تسعى وراءَ مُثُلِها العُليا من مرحلةِ البربريّةِ البدائيّةِ إلى أعلى مراحلِ الحضارةِ الإنسانيّةِ. وعندما تسقطُ تلكَ المُثُلُ تسقُطُ الأمّةُ وتموت.

 

٢٦-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان