لمْ تهدأْ بعدُ العاصفةُ التي أثارَها قرارُ البرلمانِ البولنديِّ بتجريمِ ومعاقبةِ محاولاتِ الرّبطِ بين الشعبِ البولنديِّ والجرائمِ النازيّةِ التي ارتُكبت ضدَّ اليهودِ إبّانَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ، والتي كانت معسكراتُ الاعتقالِ في بولندا ساحتَها الرئيسة. ما يثيرُ غضبَ البولنديّينَ هو وصفُ تلكَ المعسكراتِ بأنها معسكراتٌ "بولنديةٌ"، وهو ما يتكرّرُ في وسائلِ الإعلامِ الأمريكيةِ والإسرائيليّةِ. لكنّ المشكلةَ في العلاقاتِ البولنديةِ-الإسرائيليّةِ تتعدّى نطاقَ معسكراتِ الاعتقالِ النازيّةِ، فهناكَ اتهاماتٌ للبولنديّينَ بتدبيرِ مجازرَ ضدَّ اليهودِ سواءً أثناءَ الحربِ أو بعدَ انتهائها مباشرةً، إضافةً إلى اتهامِهم بمساعدةِ النازيّين في ملاحقةِ اليهودِ وتسليمهِم للجيشِ الألمانيِّ ونهبِ ممتلكاتِهم وغيرِ ذلكَ من الممارساتِ التي لا ينكرُ الجانبُ البولنديُّ وقوعَها، لكنّهُ يصرُّ على أنّها كانت مجرّدَ حوادثَ فرديّةٍ لا يتحمّلُ الشعبُ البولنديُّ أو الدولةُ البولنديّةُ مسؤوليّتَها. وعلى الرّغمِ من تمسّكِ البولنديّينَ بموقفهم فإنَّهم اضطروا للإذعانِ إلى الضغوطِ الأمريكيةِ-الإسرائيليّةِ وقامَ البرلمانُ بإلغاءِ القرارِ الذي أرادَ من وراءِ سنّهِ حمايةَ الرّوايةِ التاريخيّةِ البولنديّةِ، فكانت النتيجةُ عكسَ ذلكَ تماماً، إذْ بدتْ بولندا أمامَ مواطنيها عاجزةً عن الصّمودِ في وجهِ الابتزازِ الخارجيِّ، وهو ما يناقِضُ الصّورةَ التي تحاولُ حكومةُ اليمينِ القوميِّ الحاكمِ في بولندا رسمَها لذاتِها كمدافعةٍ عن استقلالِ وسيادةِ بولندا، سواءً في وجهِ الاتحادِ الأوروبيّ أو ضدَّ الخطرِ الرّوسيّ.

 

سيشهدُ العامُ القادمُ (٢٠٢٠) مناسباتٍ عديدةً مرتبطةً بالحربِ العالميةِ الثانيةِ، أهمُّها هي الذكرى ٧٥ لنهايةِ الحرب، والتي يتمُّ الاحتفالُ بها في معظمِ دول أوروبا في ٨ أيار/مايو، بينما تحتفلُ روسيا بها في ٩ من الشهرِ نفسهِ، وذلكَ بسببِ فارقِ التوقيتِ بين برلين وموسكو عند توقيع صكِّ استسلامِ ألمانيا النازية في ٨-٥-١٩٤٥. أمّا المناسبةُ الأخرى والتي يتمُّ التركيزُ عليها كلَّ عامٍ فهي مناسبةُ تحريرِ معسكرِ الاعتقالِ النازيّ "أوشفيتز" الموجودِ في بولندا والذي قامت بتحريرهِ يوم ٢٧-١-١٩٤٥ القواتُ السوفياتيّةُ الزّاحفةُ نحو برلين. ومن المفارقاتِ أنَّ الحكومةَ البولنديّةَ لم توجّه دعوةً للرئيسِ الرّوسيِّ لحضورِ الاحتفالِ الذي سيجري تنظيمهُ في ٢٧-١-٢٠٢٠ في الذكرى ٧٥ لتحريرِ المعسكرِ، بينما من المتوقّعِ حضورُ الرئيسِ الإسرائيليّ. في المقابلِ تقومُ دولةُ الاحتلالِ الاستيطانيِّّ -وضمنَ سياستِها المتواصلةِ الهادفةِ إلى تنصيبِ نفسِها كوريثٍ لمعاناةِ اليهودِ في الحربِ العالميةِ الثانيةِ- بتنظيمِ الاحتفالاتِ المركزيةِ بهذه المناسبةِ في معهد يادفاشيم في القدسِ وبحضورِ بوتين ورؤساءِ فرنسا وألمانيا وايطاليا والنمسا. وفي ذلكَ "ردُّ اعتبارٍ" مقصودٌ للدورِ الروسيِّ في تحريرِ معسكرِ الاعتقالِ النّازيِّ، وهو ما تحاولُ بولندا إنكارَهُ من خلالِ تعمّدِ عدمِ دعوةِ الرئيسِ الرّوسيّ للمشاركةِ في الاحتفالاتِ البولندية.

 

لم يقف الرئيسُ الرّوسيُّ صامتاً أمامَ محاولاتِ الانتقاصِ من الدّورِ التاريخيِّ الذي لعبهُ الاتحادُ السوفياتي في هزيمةِ ألمانيا النّازيّةِ، فالحربُ العالميةُ الثانيةُ في الذاكرةِ الرّوسيةِ تحديداً هي "الحربُ الوطنيةُ الكبرى" التي بلغت كلفتُها عشرين مليون ضحيّةً، وهي الصمودُ الاسطوريُّ أمامَ الغزوِ النازيِّ ثمَّ الانتقالُ إلى الهجومِ وملاحقةُ الجيوشِ الألمانيةِ حتى برلينَ ورَفعُ العَلمِ السوفياتيِّ فوقَ مقرّ "الرّايخ" الألمانيِّ. وقد بدأ بوتين منذ عدّةِ أشهرٍ هجومَهُ على الجانبِ البولنديِّ من خلالِ الرّبطِ بين بولندا وألمانيا النازيّةِ كحليفَينِ يجمعهما العداءُ "للسّاميّةِ"، ويسوقُ بوتين أمثلةً تدعمُ وجهةَ نظرهِ، منها أنَّ سفيرَ بولندا في برلين في السنواتِ التي سبقت اندلاعَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ (جوزيف ليبسكي) قد وعدَ هتلر بأنَّ الشعبَ البولنديَّ سيشيّدُ له تمثالاً وسطَ وارسو إنْ هو قامَ بالتخلّصِ من اليهودِ وطردَهم إلى "صحارى إفريقيا". ويؤكدُ بوتين أنّ اختيارَ هتلر لبولندا كي تكونَ "مسرحاً" لتنفيذِ جرائمهِ ضدَّ اليهودِ ما كانَ ليتمَّ لولا العداءُ "للساميّةِ" الذي كانَ سياسةً بولنديةً شاملةً قبلَ الحربِ وبعدَها. لا حاجةَ للتدقيقِ والتمحيصِ لنرى كيفَ ينحازُ بوتين إلى الرّوايةِ "الأخرى" المناقضةِ للروايةِ البولنديةِ، وهو ما يثيرُ مخاوفَ وقلقَ الجانبِ البولنديِّ الذي باتَ يخشى من العزلةِ وعدمِ القدرةِ على مواجهةِ الهجمةِ الرّوسيّةِ، خاصّةً أنّ بولندا لا تملكُ أدنى مقوّماتِ الدّعمِ من الدولِ الأوروبيّةِ بعدَ أنْ ساءتْ علاقاتُها مع الاتحادِ الأوروبيّ نتيجةً لما تتخذهُ الحكومةُ البولنديةُ من أجراءاتٍ تعتبرُ من وجهةِ النّظرِ الأوروبيّةِ إجراءاتٍ تحدُّ من الحريّاتِ العامّةِ وتصادرُ استقلالَ القضاءِ وتتحكّمُ بمؤسساتهِ بشكلٍ مناقضٍ للدستورِ البولنديِّ ومتعارضٍ مع القوانينِ الأوروبيّة.

 

*يستخدمُ بوتين سلاحَ "معاداةِ السّاميّةِ" لتحييدِ الدّورِ البولنديِّ الذي يتصدّرُ باستمرارٍ الدعواتِ لمواصلةِ فَرضِْ العقوباتِ الأوروبيّةِ ضدَّ روسيا بسببِ ضمّها لشبهِ جزيرةِ القِرْمِ، ولتعزيزِ الوجودِ العسكريِّ الأمريكيِّ في بولندا بما يشكّلهُ ذلكَ من تهديدٍ مباشرٍ للأمنِ القوميِّ الرّوسيِّ. وقد تجدُ بولندا نفسَها وحيدةً أمامَ الدبِّ الروسيِّ الذي يتقنُ محاصرةَ واصيادَ فريستِهِ. 

 

٢٩-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان