لا يوجدُ حضٌّ على العنايةِ بالنّظافةِ أبلغُ من هذا القولِ المأثور، إذْ جعلَها جزءًا من الإيمانِ، مثلُها مثلُ كلّ العباداتِ التي نتقرّبُ بها إلى اللّهِ. ولأنّها كذلكَ فإنَّ الاعتناءَ بها هو إحدى صفاتِ المواطِنِ المؤمنِ بواجبِهِ ودورِهِ في نشرِ ثقافةِ الاهتمامِ بما حولَنا وعدمِ الاكتفاءِ بما يتعلّقُ بنا شخصيًّا أو بمحيطِنا الضيّقِ، لأنَّ الإنسانَ ببساطةٍ لا يمكنُ أنْ يمارسَ حياتَهُ بمعزلٍ عن البيئةِ التي تحتضنُهُ وتوفّرُ لهُ أسبابَ الحياةِ.

نعلمُ في فلسطينَ أنَّ العدوَّ الأكبرَ للنّظافةِ بكلِّ أبعادِها هو الاحتلالُ والاستيطانُ الإسرائيليُّ بكلِّ ما فيهما من عدوانٍ على الحقِّ والطّبيعةِ وعلى ثرواتِ الوطنِ وخيراتِهِ ومياهِهِ، وما يتسبّبانِ بهِ من تشويهٍ للأرضِ وتغييرٍ في معالمِها. وبعيدًا عن اعتبارِ المستوطناتِ انتهاكًا للقانونِ الدّوليِّ وكونِها جريمةَ حربٍ، إلّا أنّها تمثّلُ أيضًا كتلةً معماريّةً شاذّةً وعشوائيّةً تسيء إلى تاريخِ فلسطينَ وحضارتِها، علاوةً على ما تتسبّبُ به من تلوّثٍ وتخريبٍ متعمّدٍ لما يحيطُ بها من أرضٍ ومزروعاتٍ. من هنا يبقى الشرْطُ الأوّلُ للحفاظِ على النّظافةِ هو كَنْسُ الاحتلالِ والاستيطانِ. لكنَّ هذا الهدفَ لا يعفينا من اتّخاذِ كلِّ الإجراءاتِ الضّروريةِ وبذلِ أقصى الجهودِ للحفاظِ على مظاهرِ النّظافةِ العامّةِ في الشّارعِ والحارةِ والبيتِ، فما فائدةُ العنايةِ بالملبسِ -على أهمّيّتهِ- واقتناءِ سيارةٍ فاخرةٍ إذا كان سائقُها أو ركّابُها يلقونَ بالقاذوراتِ من شبّاكِها؟ وما معنى تشييدِ الأبراجِ والمراكزِ التّجاريةِ وغرسِ الأشجارِ على حوافِّ الشوارعِ إذا كانت الثقافةُ السائدةُ هي رميُ الفضلاتِ في كلِّ مكانٍ إلّا في المكانِ المخصّصِ لها؟

هناكَ عددٌ من الأمراضِ مرتبطةٌ بالنظافةِ العامّةِ، ومنها التهابُ الكبدِ الوبائيُّ A أو حمّى التيفوئيد وغيرهما. وهي أمراضٌ لا يكفي لتجنّبها أن يحافظَ الفردُ وحدَهُ على نظافتهِ، لأنّها تنتقلُ مع المأكولات والخضرواتِ والفواكهِ ومياهِ الشّربِ إذا لمسها شخصٌ مريضٌ، من هنا جاءت تسميتُها: أمراضُ الأيدي المتّسخةِ. ويقاسُ مدى تطوّرِ المجتمعاتِ واهتمامِها بنظافتِها بمقدارِ تخلّصها من هذهِ الأمراضِ. وهذا بدورِهِ يحتّمُ علينا العملَ على نشرِ وتعميمِ ثقافةِ التعاملِ مع نظافتنا الشّخصيّةِ والعامّةِ كأولويّةٍ شخصيّةٍ ووطنيّةٍ، وجعلَ هذه الثقافةِ جزءًا من برنامجٍ وطنيٍّ شاملٍ يبدأُ من البيتِ لينتقلَ إلى مناهجِ التّعليمِ ومنها إلى المؤسّساتِ العامّةِ والخاصّةِ، فليسَ هناكَ ظاهرةٌ تتطلّبُ تكاملَ جهودِ المجتمعِ بأكملِهِ مثلَ النّظافةِ والحفاظِ على التّناسُقِ بين الإنسانِ والطّبيعة.

لا تكتملُ النّظافةُ إلّا بالعنايةِ بنظافةِ الفِكْرِ ونقائهِ وتنميةِ مناعتِهِ ضدَّ قاذوراتِ التلوّثِ التي تحاولُ التسلّلَ إلى العقولِ بأفكارٍ أشدَّ خطرًا وأقذرَ رائحةً من الأوساخِ الملقاةِ على قارعةِ الطّريقِ. ولا شيءَ يساعدُ الأممَ والشّعوبَ على المحافظةِ على شخصيّتها وتراثِها وحضارتِها كالحفاظِ على منظومتِها الأخلاقيّةِ التي تستمدُّ نقاءها من تجاربِ الأجيالِ المتعاقبةٍ بما يجعلُ منها "علامةً مسجّلَةً" تميّزُ الأمّةَ أو الشّعبَّ عنْ غيرهِ وتمنحُهُ القدرةَ على الديمومةِ والبقاءِ والتطوّر.

*نظافةُ الوطنِ من الاحتلالِ والاستيطانِ، ونظافةُ البيئةِ والمحيطِ والشارعِ من الأوساخِ، ونظافةُ الفِكْرِ من قاذوراتِ الغزوِ الثّقافيّ.. كلُّها مجتمعةً تشكّلُ ترجمةً عمليّةً للقولِ المأثورِ: النّظافةُ من الإيمان.

٢٣-١١-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان