ليسَ هناكَ قوَّةَ احتلالٍ في التّاريخِ مارست الاعتقالَ السياسيَّ مثلما تفعلُ إسرائيل، وهي في ذلكَ تضيفُ سبباً آخرَ يضافُ إلى سلسلةِ الأسبابِ الوجيهةِ التي تستدعي وصمَها بجدارةٍ بالدّولةِ المارقةِ، إذْ أنّ كلَّ ما تقومُ بهِ بحقِّ الأسرى الفلسطينيينَ يندرجُ في إطارِ جرائمِ الحربِ التي تميّزُ الدولَ الخارجةَ عن القانونِ الدولي، فقد ألزمَ هذا القانونُ القوةَ القائمةَ بالاحتلالِ بعدمِ استخدامِ الاحتجازِ والاختطافِ والاعتقالِ وسيلةً لفرضِ السيطرةِ على الأراضي التي تقومُ باحتلالِها، وألزمَها كذلكَ في حالاتِ الاعتقالِ التي تفرضُها ظروفُ الحربِ أن تتعاملَ معَ منْ تحتجزُهم كأسرى حربٍ بكلّ ما يترتّبُ على ذلكَ من احترامٍ لكرامةِ الأسيرِ وضمانِ معاملتِهِ بشكلٍ يليقُ بكونِهِ مقاتلاً في ساحةِ حربٍ وليسَ متهّماً بجُرمٍ جنائي.
تمارسُ إسرائيلُ سياسةَ الاختطافِ والاعتقالِ بشكلٍ ممنهَجٍ، وتطبّقُ في سبيلِ ذلكَ قوانينَ الانتدابِ البريطانيّ التي اختلَقت الاعتقالَ الإداريّ كوسيلةٍ لإخضاعِ الشعوبِ الواقعةِ تحتَ سلطتِها الاستعماريةِ.
لقد مرّ أكثر من مليون فلسطينيّ بتجربةِ الاعتقالِ والأسرِ بعدَ الاحتلالِ الإسرائيليّ للضفةِ الفلسطينيةِ وغزةَ عام 1967، ولا يوجدُ بيتٌ أو عائلةٌ فلسطينيةٌ واحدةٌ لم تذُقْ مرارةَ اختطافِ أحدِ أبنائها بكلّ ما يعنيهِ ذلك من عذابِ الانتظارِ وويلاتِ ترتيبِ الزياراتِ ووجعَ انقطاعِ الأسيرِ عن المشاركةِ في مسيرةِ حياةِ أسرتِهِ بأفراحِها وأتراحِها، وهذا ثمنٌ إنسانيّ يدفعهُ الأسيرُ وعائلتُهُ لا يمكنُ أن يتمّ تعويضُهُ أو ترميمُ ما يتركُهُ من آثارٍ سلبيةٍ لا يمكنُ إصلاحُها.
تدركُ إسرائيلُ أنّ سياسةَ الاعتقالِ والأحكامِ التعسفيّةِ لمْ تستطِعْ إجبارَ شعبِنا على التوقّفِ عن مقاومةِ الاحتلالِ، وتدركُ أيضاً أنّ كلَّ ما تمارسُهُ من تنكيلٍ وتعذيبٍ ضدّ الأسرى وما تتفنّنُ في تطبيقهِ من سياساتِ العزلِ ومنعِ الزياراتِ وتعمّدِ إهمالِ الرعايةِ الصحيةِ للأسرى، كلّ ذلكَ وغيرُهُ لم يُعطِ النتيجةَ التي تتوخاها سلطةُ الاحتلالِ وهي كسرُ إرادةِ الأسرى، والنتيجةُ لكلّ هذهِ الممارساتُ هي نقيضُ ما تسعى إليهِ إسرائيلُ، فقد أصبحت المعتقلاتُ مدارسَ نضاليةً تحوّلت الحركةُ الأسيرةُ بفضلِها إلى بوصلةٍ للنضالِ الوطنيّ ومرجعيةٍ سياسيةٍ تحظى باحترامِ وتقديرِ شعبِنا بكلّ فئاتِهِ وأطيافِه.
في هذا السياقِ نفهمُ سعيَ إسرائيلَ إلى إجبارِ شعبِنا وقيادتِهِ الوطنيةِ على التخلّي عن واجبِهِ والتزاماتِهِ نحو الأسرى وعائلاتِهم، فهي تريدُ تحقيقَ ما عجزتْ عن تحقيقِهِ حتى الآنَ، وهو فصلُ الحركةِ الأسيرةِ عن الحركةِ الوطنيةِ الفلسطينيّةِ والإيحاءُ للأسرى بأنّ شعبَهم قد تخلّى عنهم. كل هذه الأهدافِ الخبيثةِ تذهبُ أدراجَ الرياحِ وهي تصطدمُ بموقفٍ فلسطينيّ واحدٍ يعبّرُ عنهُ السيد الرئيس أبو مازن حين يقولُ وهو يرفضُ القرصنةَ التي تقومُ بها إسرائيلُ التي تحتجزُ أموالَ شعبِنا مثلما تحتجِزُ أسراه.. نجوعُ ولا نتخلّى عن التزاماتِنا نحوَ أسرانا وشهدائنا وجرحانا.