بقلم: رامي سمارة

في الأسابيع الأخيرة، راحت تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي صور لأسرى محررين لحظة الإفراج عنهم من سجون الاحتلال إلى جانب أخرى التُقطت لهم قبل اعتقالهم الأخير.

وتقارن تلك الصور المحررين قبل الاعتقال وبعده والتغيير الذي طرأ عليهم، للتدليل على الظروف اللاإنسانية التي فُرضت عليهم والجرائم التي اقتُرفت بحقهم في سجون الاحتلال بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والتي أودت بحياة عدد من الأسرى وأدت إلى تقطيع أطراف آخرين نتيجة تقييدهم بالأصفاد لفترات طويلة.

وتُبرز هذه الصور ما طرأ من تغييرات على الأسرى المحررين من حيث الشكل والهيئة، وتبين بنظرة أولى استطلاعية تناقص الأوزان وإهمالاً في الهندام وأذقانا ورؤوسا غير حليقة، وكأن أصحابها شاخوا فجأة أو عادوا لتوهم من معركة أو خرجوا من تحت أنقاض.

ويصف الأسير المحرر عمر عساف (74 عاماً) سجون الاحتلال بأنها أضحت مسالخ خسر فيها الأسرى عشرات الأطنان من لحمهم خلال الأشهر الستة الأخيرة، وكانت حصته فقدانه لـ29 كيلوغراماً، مؤكدًا أن الحالة عامة لا تتعلق بأسير دون آخر، ولكن آثارها تتراوح بين جسم وآخر، والمعتقلون كانوا رهائن بيد الاحتلال خارج القانون، فلم يكونوا لا سجناء رأي ولا معتقلين سياسيين ولا أسرى حرب، بل فُرضت عليهم تلك السياسات وأبسطها التجويع والحرمان من الغذاء المناسب كما ونوعًا.

ويقول أن إدارة السجون منعت الفاكهة بأنواعها كافة، واللحوم الحمراء والبيضاء، والمشروبات الساخنة، والسجائر للمدخنين من الأسرى، وكانت تسمح فقط ببعض الطعام المسلوق وبكميات شحيحة، ففي شهر رمضان الفائت تم تقديم مقدار كأس أرز واحد وحبة خضراوات واحدة لأربعة أسرى على الأقل في معتقل "عتصيون" على الفطور، وشريحتي خبز وبعض الجرامات من اللبنة والمربى لوجبة السحور، وحين كان يحتج الأسرى على ذلك ويطالبون بما لهم من حقوق، كان ضابط إدارة السجن يقول، هذه سياسة رسمية حكومية، والسجانون ينفذون فقط ما يطلبه الجيش منهم، كما يقول عساف، مؤكدًا أن إدارة السجون كانت تقدم الطعام ليس لسد الرمق وإنما لإبقاء الأسرى على قيد الحياة، رغم أنها لم تكن تلقي بالاً لذلك، بدليل أن 16 أسيراً فقدوا حيواتهم بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بسياسات أخرى غير التجويع، وأبرزها القمع والتنكيل والإهمال الطبي.

وفي هذا السياق، يتوقف عمر عساف عند حالة طُلب فيها ممرض السجن لأسير يشتكي ألماً أو يعاني حالة مرضية، فيأتي الرد أن الممرض يحضر فقط عند موت أحدهم، بينما يكون أول من يحمل سلاحاً أو عصا إذا ما قررت الإدارة قمع أسرى في القسم أو المعتقل.

ويقول رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين قدورة فارس: أن صور مقارنة الأسرى قبل الاعتقال وبعده تكشف عن شيء ولا تكشف عن كل شيء، وهي بمثابة عينة لما يمر به 10 آلاف أسير لم تتوقف معاناتهم لأنهم ما زالوا رهن الاعتقال، مؤكدًا أن ما يُنشر يتناول نتائج ظاهرية للعين، فالأمر لا يتوقف عند فقدان الوزن، إذ باتت تظهر مشاكل صحية وأضرار طويلة الأمد جسدية ونفسية لدى محررين تتطلب تدخلاً طبيًا وعلاجًا مطولاً، مشيرًا إلى أن الهيئة تدرس الاستعانة بأطباء نفسيين لعرض المحررون عليهم، لا سيما صغار السن وأصحاب تجارب الاعتقال الحديثة، خاصة أن عددًا منهم لم يتمكن من النوم على مدار عدة أيام من خروجه من سجون الاحتلال.

وحذر فارس من نتائج كارثية من المتوقع أن تظهر قريباً لتراكم وتوالي سياسات التجويع والاعتداءات الوحشية والتوتر والاكتظاظ، "فبعد نحو سبعة أشهر من تطبيق السياسات الإجرامية في المعتقلات، ستكون هناك نتائج قد تظهر على شكل أوسع وقد لا تقتصر على أفراد"، مشيرًا إلى أن رواية الاحتلال قد صدقت حول استشهاد 56 أسيراً منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، 40 منهم من قطاع غزة، فيجب أن نتوقع استقبال أخبار حول ارتقاء مجموعات في يوم واحد أو أسبوع واحد، لأن الأوضاع في السجون على حافة الانهيار من الجانبين الصحي والنفسي".

وترى مسؤولة الإعلام في نادي الأسير الفلسطيني أماني سراحنة، أن تداول صور المقارنة للأسرى قبل الاعتقال وبعده على وسائل التواصل الاجتماعي، قد لا يعطي الصورة الكاملة والحقيقية لتفسير ما يجري داخل سجون الاحتلال في الأشهر الأخيرة، موضحة أن سياسة التجويع التي انتهجتها إدارة السجون ليست المسبب الوحيد لظهور المحررين بالهيئات التي يعمل الناشطون والإعلام على إبرازها والحديث عنها، وإنما تضاف إليها صنوف متعددة من التعذيب التي يتعرضون لها، مؤكدة أنهم يرون من خلال صور المقارنة جزءًا من الواقع، ولكن لا يمكن أن نقيس من خلالها التبعات النفسية والجسدية والاجتماعية التي لا يمكن رصدها بالعين المجردة.

وأشارت سراحنة إلى أن معظم من قرروا التوجه إلى المستشفيات لإجراء فحوص طبية بعد الإفراج عنهم مؤخرًا، تبينت إصابتهم بمشكلات صحية طويلة الأمد، كما أن عددًا كبيرًا من الشبان يعانون عوارض نفسية توصف بأنها صعبة وخطيرة، منوهة  إلى أن الشهادات التي تعمل مؤسسات الأسرى على جمعها من أسرى محررين أو من خلال ذويهم، تشير إلى أن شريحة منهم تعاني مشكلات في النوم، فيما البعض آثر العزلة والبقاء في المنزل، وآخرون امتنعوا عن استقبال المكالمات أو الحديث مع الآخرين، وكان معظمهم ممن خاضوا تجربة الاعتقال الأولى بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وكان وقعها أقسى بكثير مقارنة بتجارب أسرى سابقين عايشوا أكثر من فترة اعتقال.

وتقول: أن ثقل تجربة الاعتقال لمن خاضها أول مرة بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر تكون أكثر حدة على غيرهم من الأسرى، وتترك تبعات على الحياة الاجتماعية والأسرية، وتفرض تحديات مستقبلية جدية لا تتطرق إليها المؤسسات الدولية ولا تتناولها في تقاريرها.

وتؤكد في الوقت ذاته أن نهج إدارة سجون الاحتلال لم يختلف بين ما هو قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وما بعده، إذ إن كل السياسات التي ترصدها المؤسسات الحقوقية الفلسطينية ثابتة وممنهجة مارسها الاحتلال على مدار عقود طويلة بحق الأسرى، إلا أن المتغير الوحيد فيها هو الكثافة ومستوى التوحش.

ونشر نادي الأسير في ورقة حقائق لمناسبة مرور 200 يوم على حرب الإبادة في قطاع غزة، أن جيش الاحتلال اعتقل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ما لا يقل عن 8430 مواطنا من الضفة بما فيها القدس، من ضمنهم 280 امرأة وفتاة، و540 طفلاً.

ووفق نادي الأسير، فقد بلغ إجمالي عدد المعتقلين حتى بداية الشهر الجاري أكثر من 9500، فيما يبلغ عدد المعتقلين الإداريين أكثر من 3660 معتقلا إداريا، وبلغ عدد من صنفهم الاحتلال (بالمقاتلين غير الشرعيين) 849 وفقًا لما أعلنته إدارة سجون الاحتلال، وهذا المعطى الوحيد المُعلن بشأن معتقلي غزة في السجون ممن يواجهون جريمة الإخفاء القسري.

وأدت الاعتداءات بحق المعتقلين، وعمليات التعذيب والإجراءات الانتقامية والجرائم الطبية، إلى استشهاد 16 معتقلاً ممن تم الكشف عن هوياتهم، وهذا لا يشمل الشهداء من معتقلي غزة الذين لم تُعرف هوياتهم ولا ظروف استشهادهم حتى اليوم.

وعكست شهادات معتقلي غزة المفرج عنهم، وآثار التعذيب الواضحة على أجسادهم، مستوى الجرائم والتوحش الذي ينفذه الاحتلال بحقهم، من بينهم معتقلون استُشهدوا جرّاء عمليات التعذيب والجرائم الطبية ولم يكشف الاحتلال حتى اليوم عن هوياتهم وظروف احتجازهم، هذا فضلا عن التقارير التي كشف عنها الاحتلال حول ذلك، واعترافه بإعدام معتقلين، إضافة إلى أحد التقارير الذي يتضمن شهادة لطبيب يفيد ببتر أطراف معتقلين مرضى ومصابين في إحدى المنشآت التابعة لمعسكر "سديه تيمان".

وذكر نادي الأسير أن إدارة سجون الاحتلال فرضت جملة من الإجراءات لتضييق الخناق والانتقام من المعتقلين، بالإضافة إلى الاعتداءات وعمليات الضرب المبرح والتعذيب التي بلغت ذروتها بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، التي تشكل كل السياسات الراهنة امتدادًا تاريخيًا لكل السياسات التي نفذها الاحتلال على مدار عقود، وقد سُجلت المئات من الإصابات بين صفوف المعتقلين بمن فيهم الأطفال والمرضى وكبار السن، الذين تعرضوا للاعتداء من وحدات القمع.

وتنوعت سبل التنكيل منذ ذلك التاريخ بين تعطيش وتجويع، بالإضافة إلى سحب كل مستلزمات الحياة الأساسية والإبقاء على الحد الأدنى منها، إذ سحبت إدارة السجون جميع الأدوات الكهربائية، والملابس، والطعام الخاص بهم، وعزلتهم عن العالم الخارجي حتى اليوم، وقامت بزج المعتقلين في غرف أو زنازين لا تتسع لهذه الأعداد، ما فرض حالة من الاكتظاظ العالي، إضافة إلى الجرائم الطبية التي تصاعدت بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وتحويل كل الإجراءات بما فيها ما يسمى بـ"الفحص الأمني- العدد" إلى محطة للإذلال، كما استخدمت عمليات نقل المعتقلين وكذلك زيارة المحامين كمحطة للاعتداء عليهم وإذلالهم من خلال السجانين ووحدات القمع.

وكل ذلك يجري بينما يواصل الاحتلال الإسرائيلي منع سائر المؤسسات الحقوقية والقانونية المحلية والدولية من القيام بزيارات للمعتقلين للاطلاع على أوضاعهم وظروف الاعتقال والسياسات التي تُفرض عليهم.