بقلم: أسيل الأخرس

ما إن ينسحب الاحتلال من منطقة في قطاع غزة، حتى تتكشف جرائمه، فمنذ بدء العدوان على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول الماضي، اكتُشفت العديد من المقابر الجماعية، وآخرها 3 مقابر في مجمع ناصر الطبي في خان يونس جنوب القطاع، انتُشل منها إلى الآن 310 جثامين في ظل الحديث عن اختفاء ألفي مواطن، وتوقعات بدفن سبعمئة في المقابر الثلاث.

ولعل أغلبية المقابر الجماعية التي جرى اكتشافها كانت في المستشفيات التي اقتحمتها قوات الاحتلال وضمت شهداء أغلبيتهم من النساء والأطفال، وكان عدد منهم مكبل الأطراف، ومعصوب الأعين، وسط تخوفات من سرقة الأعضاء واستخدام الاحتلال لأسلحة غير معروفة سابقا، ما يطرح سؤالا حول ماذا ينتظر العالم بعد لإدانة الاحتلال بـ"الإبادة الجماعية"؟.

إن مجازر الاحتلال حصلت على مدار عقود الاحتلال، وانتقلت فيها إسرائيل من حروب التطهير العرقي بحق المواطنين الفلسطينيين قبل وخلال نكبة عام 1948، مرورًا بمجزرتي الطنطورة ودير ياسين وغيرهما، إلى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة وآخرها في خان يونس، بهدف القضاء على الوجود الفلسطيني.

فمجزرة الطنطورة التي وقعت في مايو/ أيار 1948، والتي تعد إحدى مجازر التطهير العرقي التي نفذتها عصابات "الهاغاناه" الصهيونية، أسفرت عن استشهاد نحو 280 فلسطينيًا أغلبيتهم من الرجال، دُفنوا في مقابر جماعية، ثم دُمرت القرية عن آخرها، وهُجر من نجا من أهلها.

وفي مايو/ أيار 2023، وبعد نحو 75 عامًا تكشفت تفاصيل المجزرة، إذ كشف تحقيق أجرته وكالة الأبحاث البريطانية "فورنسيك أركيتكتشر" حول المقابر الجماعية في الطنطورة، والذي استغرق 18 شهرًا، واستعان بشهادات ناجين من المجزرة، واستُخدمت فيه تقنيات حديثة لتحليل مواد أرشيفية وصور جوية وخرائط للقرية، اللثام عن 4 مواقع لمقابر جماعية في الطنطورة، أحدها يقع تحت موقف للسيارات على الشاطئ، والثاني تحت ممر للمشاة داخل القرية السياحية، والثالث على الشاطئ قرب بيت الحاج يحيى، أما الأخير فيقع داخل المقبرة الإسلامية التاريخية للقرية.

وقال وزير العدل شرحبيل الزعيم: إن إسرائيل ارتكبت في قطاع غزة كافة أشكال الجرائم المحظورة دولياً، وارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، ويعتبر قيامها بدفن جماعي وفي مقابر جماعية دليلاً على ارتكابها جريمة سنداً لاتفاقية الإبادة الجماعية 1948 ونص القانون الدولي الإنساني على آليات وقواعد وضوابط للتعامل مع الجثث أثناء النزاعات المسلحة، بما يضمن ويكفل احترام الجثمان وصونه بشكل ملائم، حيث نصت اتفاقيات جنيف الأربعة 1949، والبروتوكول الأول الإضافي 1977 على دفن الموتى في مقابر فردية وحظر الدفن في مقابر جماعية، وحظر انتهاك أو تشويه الجثامين أو المساس بها.

وأوضح وزير العدل انه جرى اكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي انتشل منها ما يقارب 283 جثة، جرى دفنها أثناء اقتحام المستشفى بشكل جماعي، ومنها جثث وجدت من دون رؤوس وجثث أخرى من دون جلود، وهناك مؤشرات على سرقة أعضاء جثث أخرى، كما توجد جثث تحولت إلى رماد بسبب استخدام أنواع أسلحة فتاكة وحارقة، صعبت عمليات التعرف على الجثث المدفونة.

وحول الإجراءات الواجب اتباعها فلسطينيًا ودوليًا لمقاضاة إسرائيل عن انتهاكاتها للقانون الدولي الإنساني، قال: نطالب المدعي العام للمحكمة الجنائية بضرورة فتح تحقيق حول وجود مقابر جماعية في قطاع غزة، لتفعيل الاختصاص القضائي العالمي أمام كافة المحاكم الدولية التي تنص تشريعاتها الداخلية على ملاحقة من يرتكب جريمة الإبادة الجماعية بغض النظر عن جنسية مرتكبها وعن مكان وقوعها.

وبين ضرورة وأهمية وجود "تقارير الطب الشرعي" في تثبيت كل واقعة لاستخدام أسلحة مجرمة دولياً، أو في كل واقعة يثبت فيها قتل مدنيين عزل أو قتل أجنة أو سرقة أعضاء من جثامين أو الاعتداء على الأعيان المدنية، حتى يكون دليلاً وبرهان قاطعا أمام القضاء الدولي.

ودعا وزير العدل، المؤسسات الحقوقية والقانونية والصحفية إلى توثيق كافة جرائم الاحتلال في قطاع غزة، توثيقاً قانونياً مدعماً بالشهادات والإفادات والتقارير الأممية الصادرة عن المقررين الخاصين للأمم المتحدة، التي يمكننا الاستناد إليها في الملفات القانونية التي سوف تحرك مستقبلا ضد اسرائيل.

وأكد أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية جرائم لا تسقط بالتقادم، ويمكن اللجوء للقضاء لكل من ثبت ارتكابه جريمة من هذه الجرائم.

وقال المدير العام لمؤسسة الحق شعوان جبارين: إن المقابر الجماعية التي اكتُشفت في قطاع غزة هي دليل على ارتكاب الاحتلال جريمتي الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية بحق المواطنين، وإن العالم لم يشهد مثل ما يحدث في القطاع، الأمر الذي يقتضي ملاحقة مرتكبيها من جنود وضباط الاحتلال والمسؤولين الإسرائيليين، مضيفًا أن المقابر الجماعية ودفن الجثامين محاولة لطمس أدلة تدين إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة، وتهدف إلى إخافة المواطنين في إطار السياسة الرسمية للاحتلال في التعامل مع الفلسطينيين بالقتل والإبادة وإنهاء الوجود الفلسطيني، موضحًا أن جرائم الاحتلال ومجازره بحق شعبنا لم تبدأ في السابع من تشرين الأول الماضي، بل إنها مستمرة منذ 100 عام من الصراع، سواء في دير ياسين أو الطنطورة أو غيرهما من القرى والمدن التي كانت شاهدة على جرائم الاحتلال، مشيرًا إلى أن جرائم الاحتلال في قطاع غزة تتكشف يوميا، وأن شهادات المواطنين والأسرى حول وحشية الاحتلال مرعبة، محذرًا من أن ما خفي من جرائم قد يكون أعظم مما جرى اكتشافه.

وبين أن هناك آلاف المواطنين من غير المعروف ما إذا كانوا أحياءً أم معتقلين، بالإضافة إلى أن الكثير من المعتقلين قُتلوا في أماكن التحقيق أو خلال اعتقالهم، إذ تفيد الشهادات بأن هناك جرائم غير مسبوقة وقعت في مراكز الاعتقال، لافتًا إلى أن قوات الاحتلال لا تسمح للصليب الأحمر بالتواصل مع المعتقلين أو حتى معرفة أسمائهم، مطالبًا بضرورة الكشف عن مصير آلاف من المواطنين والعمال ممن جرى إخفاؤهم منذ 7 تشرين الأول الماضي.

وأكد جبارين ضرورة تحديد أماكن المقابر الجماعية لتبقى شاهدا على جريمة الإبادة الجماعية، مشددًا على أن فلسطين وأحرار العالم ينتظرون قرار محكمة العدل الدولية في قضية الإبادة الجماعية، منوهًا إلى أن منظومة القانون الدولي أمام امتحان بشأن حرب الإبادة في غزة، وأن دماء أطفال غزة والأبرياء ستلاحق جيش الاحتلال وجميع المسؤولين الإسرائيليين.

هذا وطالبت دولة فلسطين وعلى لسان رئيس المجلس الوطني روحي فتوح، منظمات حقوق الإنسان الدولية، ومنظمة العفو الدولية، بإرسال فرق تحقيق جنائي لفحص وتوثيق المجازر والمقابر الجماعية التي تم اكتشافها في باحات مجمع ناصر الطبي في خان يونس جنوب قطاع غزة، والتي تعمدت قوات الاحتلال إخفاءها ودفنها في الرمال، وإلقاء النفايات فوقها، موضحًا أن الجريمة والمجزرة البشعة التي ارتكبها جيش الاحتلال باستباحة مجمع ناصر الطبي واقتحامه مرتين وتدمير مبانيه ونهب الأجهزة الطبية تؤكد مدى همجيته وانعدام أخلاقه.

 

* المقابر الجماعية تثير صدمة وذعرًا عربيًا وأمميًا ومطالبات بلجنة تحقيق دولية ومحاسبة مرتكبيها

أثارت التقارير الإنسانية والصحفية حول المقابر الجماعية في مستشفيي مجمع الشفاء الطبي، ومجمع ناصر الطبي ردود أفعال أممية وعربية ومطالبات بلجنة تحقيق.  

بدوره، طالب مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الثلاثاء، بتحقيق دولي في المقابر الجماعية التي عثر عليها في مجمع الشفاء الطبي، ومجمع ناصر الطبي، بقطاع غزة، مشددًا على ضرورة اتخاذ إجراءات مستقلة لمواجهة "مناخ الإفلات من العقاب".

ووصف المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، في بيان، الدمار الذي لحق بمجمع الشفاء، وهو أكبر مستشفى في غزة، وبمجمع ناصر الطبي في خان يونس، ثاني المراكز الاستشفائية الكبيرة في القطاع، بأنه "مروع"، مشددا على الحاجة إلى "تحقيقات مستقلة وفعّالة وشفّافة"، وأنه لا بد من إشراك محققين دوليين في هذا المسار"، مؤكدًا أن "قتل مدنيين ومعتقلين وأفراد آخرين هو جريمة حرب"، وأن "القانون الدولي الإنساني ينص على حماية خاصة جدًا للمستشفيات".

المملكة الأردنية الهاشمية أيضًا أدانت في بيان من وزارة خارجيتها استمرار جرائم الحرب البشعة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وآخرها اكتشاف المقابر الجماعية في باحة مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة.

وأكد الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية والمغتربين الأردنية السفير سفيان القضاة، إدانة المملكة واستنكارها المطلق لهذه الأفعال والجرائم التي تمثل انتهاكاً صارخاً لقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وتمثل جرائم حرب على المجتمع الدولي بأكمله، وواجب التصدي لها ومحاسبة المسؤولين عنها، مشددًا على ضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته ووقف الحرب المستعرة على قطاع غزة، وما تُنتجه من معاناة وكارثة إنسانية غير مسبوقة، وبما يضمن حماية المدنيين، وإيصال المساعدات الإنسانية الكافية والمستدامة إلى جميع أنحاء القطاع.

كما أدانت المملكة العربية السعودية، استمرار قوات الاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب جرائم الحرب الشنيعة في قطاع غزة دون رادع، وآخرها اكتشاف مقابر جماعية في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب القطاع.

وأكدت وزارة الخارجية السعودية في بيان، صدر عنها أمس الثلاثاء، أن إخفاق المجتمع الدولي في تفعيل آليات المحاسبة تجاه انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي لقواعد القانون الدولي لن ينتج عنه سوى مزيد من الانتهاكات وتفاقم المآسي الإنسانية والدمار، مجددة مطالبتها باضطلاع المجتمع الدولي بمسؤوليته تجاه وقف اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على المدنيين في قطاع غزة ومحاسبته على المجازر التي ارتكبها.

ولعل اكتشاف المقابر في خان يونس ليس بالحادثة الأولى من نوعها، إذ أعلنت مصادر طبية قبل أيام انتشال جثامين 300 شخص خلال اقتحامه في منتصف مارس الماضي، دُفنوا في مقبرتين بمجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة، إحداهما أمام قسم الطوارئ، والأخرى أمام قسم الكلى، وأنه تم اكتشافهما بعد عدة أيام من عمل الطواقم الحكومية المختصة، بحثا عن جثامين الضحايا، التي تعمد جيش الاحتلال إخفاءها ودفنها عميقاً في الرمال، وإلقاء النفايات عليها، ودفنها في زوايا مجمع الشفاء الطبي، وتحت بقايا ركامه وأنقاضه، وتحدثت المصادر عن جرائم بحق الإنسانية تكاد تكون الأبشع في التاريخ بحق مجمع طبي.

كما تحدث أطباء مستشفى كمال عدوان في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وتحديدا في شباط/ فبراير الماضي، أن قوات الاحتلال التي اقتحمت المستشفى قامت بحفر القبور وسحب الجثث وسحقها بالجرافات.

وفي إحدى مدارس بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، في كانون الثاني/ يناير الماضي، عُثر على مقبرة جماعية تضم جثامين 30 مواطنا مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين، ما يدل على اعتقالهم قبل إعدامهم ميدانيا.

وبحسب إحصائيات غير نهائية، فإن عدوان الاحتلال على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أسفر عن استشهاد 34262 مواطنا، بينهم أكثر من 9752 امرأة، و14778 طفلا، و485 من الطواقم الطبية، و170 صحفيا، و67 من طواقم الدفاع المدني، كما استُشهد 30 طفلا نتيجة المجاعة، بالإضافة إلى 7000 مفقود، جاءت هذه الأرقام في 3025 مجزرة ارتكبها الاحتلال في قطاع غزة.

* إسرائيل تتعامل كدولة فوق القانون وتواصل مجازرها

ولم تكفِ العالم مئتا يوم من القتل والدمار، ليتحرك جديا لإلزام إسرائيل بوقف حربها المدمرة ومجازرها في قطاع غزة، التي حصدت أرواح عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، وأحدثت دمارًا هائلا في المباني والبنى التحتية أشبه ما يكون بالآثار التي يخلّفها الزلزال.

وفي اليوم الـ112 من العدوان الإسرائيلي على غزة، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بقبول نظر الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا، وفرض "تدابير مؤقتة" على إسرائيل لمنع الإبادة الجماعية، وفي 26 يناير/ كانون الثاني، اصدرت محكمة العدل الدولية أمرًا باتخاذ "تدابير فورية وفعَّالة" لحماية الفلسطينيين في قطاع غزّة المحتل من خطر الإبادة الجماعية ومنحت إسرائيل شهرًا واحدًا لتقديم تقرير عن امتثالها لهذه التدابير. وخلال تلك الفترة، واصلت إسرائيل، باعتبارها القوة المحتلة، تجاهل التزامها بضمان تلبية الاحتياجات الأساسية للفلسطينيين في غزّة.

واستخدمت واشنطن حق النقض "الفيتو" ضد ثلاثة مشاريع قرارات في مجلس الأمن منذ بدء العدوان على غزة، في السابع من تشرين الاول/ أكتوبر الماضي، كان اثنان منها يطالبان بوقف فوري لإطلاق النار.

واعتمد مجلس الأمن مشروع قرار رقم 2712 قدمته مالطا، ويدعو إلى إقامة هُدن وممرات إنسانية عاجلة ممتدة في جميع أنحاء قطاع غزة، وأيده 12 عضوًا وامتنعت الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والمملكة المتحدة عن التصويت.

كما اعتمد مجلس الأمن الدولي بأغلبية كبيرة القرار رقم 2720، وصوتت 13 من الدول الـ15 في المجلس الأمن لصالح القرار الذي قدمته الإمارات العربية المتحدة، في حين امتنعت الولايات المتحدة وروسيا عن التصويت، ويدعو القرار "كل الأطراف إلى إتاحة وتسهيل الإيصال الفوري والآمن ومن دون عوائق لمساعدة إنسانية واسعة النطاق" إلى غزة، وإلى اتخاذ إجراءات "عاجلة" بهذا الصدد، و"تهيئة الظروف لوقف مستدام للأعمال القتالية".

وفي 25 آذار/ مارس 2024، تبنى مجلس الأمن القرار رقم 2728، الذي قدمته كل من: الجزائر، والإكوادور، وغويانا، واليابان، ومالطا، وكوريا الجنوبية، وسيراليون، وموزمبيق، وسلوفينيا، وسويسرا، والذي يدعو إلى وقف إطلاق النار الفوري خلال شهر رمضان بما يؤدي إلى وقف دائم ومستدام لإطلاق النار، وكفالة وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وقد حصل على 14 صوتًا مؤيدًا، فيما امتنعت الولايات المتحدة الأميركية عن التصويت.