نحن -الفلسطينيين- أرادوا من صنعوا لنا النكبة من مختلف الجنسيات، أرادوا لنا أن نكون  كمثل ذاك الذي ألقي في اليمّ مكتوفًا، وقالوا له : إياك إياك أن تبتلّ بالماء...!! وبمعنى أنه طلب منا، بعد اجتياح النكبة، لحالنا، وحياتنا، وأرض بلادنا، أن نتجاوز لا كل قوانين الفيزياء الطبيعية فقط، وإنما في الأساس، أن نقف ضد الطبيعة، والطبائع الإنسانية، في الرفض المشروع، والاحتجاج الحق، لنقبل تاليًا بالخنوع المطلق تجاه كل ما يجري ضد قضيتنا الوطنية...!!! وهذا بالطبع لم يحدث، ولن يحدث، وقد أوقدنا في ليل النكبة شعلة الثورة، التي أضاءت لنا طريق الكرامة الوطنية، طريق الحرية، والتحرر، والاستقلال، وما زلنا ماضين فيها، وما زلنا في بحر الصراع منذ أكثر من مئة عام، وإنه لبحر هائج، متلاطم الأمواج، وموازين القوى التي تميل حتى اللحظة لجانب عدونا الاحتلال، ما زالت تجرب مثال اليمّ،  وتطالبنا بأن نصمت تجاه الخروق الخطيرة المتواصلة للأمن القومي العربي، ومنها الاتفاقات التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية (...!!) في هذا المحيط العربي، وهذا ما جعل ويجعل ظهرنا مكشوفًا الى حدٍّ موجع، ولأننا لن نصمت سنقول، ولكن بتعقل وحكمة: قد نفهم، ونتفهم حسابات السياسات الإقليمية والقُطرية، بكونها حسابات محكومة لموازين القوى الظالمة، ما يجعلها حسابات إقليمية، وقُطرية تمامًا،  ونعرف أن السياسة في المحصلة راهن متحول، وما من اتفاق سياسي تخلّد عبر التاريخ أبدًا،  لكنّا لن نفهم ولن نتفهّم اعتبار قوى المقاومة الحالية(...!!) بعض تلك الاتفاقات انتصارًا إلهيًا،  كمثل اتّفاق ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية ، لم تعد فلسطين محتلة عند هذه القوى، وهذا باختصار شديد ...!! اختصار يوضح على نحو لا يقبل جدلاً أن فلسطين لم تكن يومًا همًّا استراتيجيًا عند هذه القوى، ولم تكن في برامجها العملية، كقضية تستوجب النضال من أجل انتصارها.

كانت فلسطين عند هذه القوى، مثل ما كانت في ستينيات القرن الماضي في بيانات العديد من الانقلابات العسكرية العربية، مجرد شعار للاستحواذ على الحكم، وثمة خطب كثيرة توالت عن التحرير، فلم تحرّر سوى التجارة، وتقريبًا  بكل شيء ...!!

وبحكم الانتصارات الإلهية  يعيش معظم الناس الذين تحت سطوة قوى المقاومة الحالية بضنك وعوز لأبسط مقومات الحياة الكريمة، حتى "وعد الآخرة" لم يعد سوى مهرجان خطابي، تستعرض فيه أغلظ  الكلمات، وأكثرها سخونة ضد  العدو وكفى الله المؤمنين شر القتال ..!!

قوى المقاومة الإسلاموية تحديدًا، أينما حلت، حلت معها العتمة، والعوز، وفوضى القمع والعسف، وحلّ معها خطاب الاستعراض، والادّعاء، ولأننا لا نريد أن نضرب أمثلة لا علاقة لنا بها، إذ نحن لا نتدخل بالشؤون الداخلية لأحد في هذا الإقليم،  فلن نضرب مثالاً إلا من عندنا، فنقول ما يقوله الواقع، ها هي خمسة عشر عامًا من حكم حركة "حماس" لقطاع غزة، وثمة كهرباء زائرة لساعات فحسب، وثمة شواطئ ملوثة، وبسطات كسيرة تطاردها بلديات حماس، وثمة اعتقالات لا حصر لتهمها ،وثمة صراف آلي بمئة دولار لا تسدّ رمقًا ولا تبني حجرة في بيت تهدم جراء الحروب الإسرائيلية العدوانية على القطاع المكلوم، وثمّة جوع، وقلق، وخوف، دفع بالمئات من شباب القطاع إلى الهجرة  بركوب البحر بقوارب بات أغلبها قوارب موت مفجع، ولن نتحدث عن مسيرات العودة التي انهتها حماس بالستر البرتقالية (...!!) بعد مئات الشهداء والجرحى.

ألقينا في أليم، ولكنّا ما رضخنا، ولن نرضخ أبدًا لإرادة الذين ألقونا بمختلف جنسياتهم، ها نحن نمضي في خضم هذا البحر، نصارع أمواجه المتلاطمة، ونزيل ما فيها من زبد، وشاطئ الحرية أمامنا، ولسنا بلا سفينة وقد تحصنت بربان القرار الوطني المستقل، ولهذا سنصل حتمًا إلى الشاطئ المرتجى، شاطئ الحرية والاستقلال.. شاء من شاء وأبى من أبى.

 

المصدر: الحياة الجديدة