* بقلم: الشاعرة الفلسطينية نهى عودة

على الرغم من الحب الكبير والألْفة بين الناس إلاَّ أنَّ الخصوصيَّة لم تعرف طريقها إليهم، والهواء الطبيعي أيضًا. فالخصوصيَّة لم تكن لتتجلَّى في أيّ إطارٍ، حيث أنَّ الأبوابَ، إنْ كان المنزلُ في الطَّابق الأرضي، تبقى مُشْرعَةً في الليل والنهار، فلا وقْتَ للظَّهِيرة ولا للقيْلولة والاسترخاء، فقد كان من المَعِيب أنْ تأخذ الناسُ مواعيدَ لزيارةِ بعضها البعض.. ومِمَّا ساعد أيضًا على الاحتفاظ بهذه العادة أنَّ ذلك الزَّمن لم يكن زمن الهواتفِ والجوَّالات التي وهبتْنا الكثيرَ من القُرْب والتَّواصل الصحي والإنساني الجميل، فكان لِزامًا على الجار أو القريب عدَم العودةِ أدْراجَه إنْ وصَل إلى باب منزلِ جاره أو قريبه حتى وإنْ كان صاحبه نائمًا أو مُنشغلاً بأيَّ شيءٍ.

أمَّا فيما يتعلَّقُ بالهواء الطبيعي، فقد كانتْ مِنطقتي تقعُ على مَشارف مَعْمَل التُّرابِ (منطقة سبلين) والذي يتوسَّطُ الجبلَ، مما يؤدِّي إلى تلوُّثٍ هوائيٍّ كبيرٍ نتنشَّقُه نحن، لذلك سترى أنَّ أغلب سكَّانِ "وادي الزينة" لديهم حساسية الرَّبو، إضافةً إلى أنَّ موْقع المنطقةِ قريبٌ جدًّا من البحر مِمَّا يجعل رطوبتَها عاليَةً، وهذا ما فاقمَ المشاكلَ التنفسيَّة خصوصًا في فصل الصيف.

إلى غاية فترة التسعينيَّات، لم يكن لدينا عيادةٌ خاصَّةٌ لـ "الأنروا" (الوكالة التابعة لغوث وتشغيل اللاجئين)، فكان كلَّما مرضَ أحدُنا، يتوجَّه به الأهالي إلى مدينة "صيدا" حيث كانتْ تتواجدُ العيادةُ الخاصة بـ "الأنروا" لتلقِّي العلاج، وترى هناك أعدادًا كبيرةً من المرضى، فتأخذ دوْرك في طابورِ انتظارٍ طويلٍ ومُمِلٍّ.. كنتُ أتعمَّد الذَّهابَ أحيانًا إلى هناك، حيث أدَّعِي بأنَّني مريضة فيأخذني أبي إلى "صيدا"، وأعترفُ بأنَّ قلبي كان مُتعلِّقًا بهذه المدينة تعلُّقًا كبيرًا، والسِّرُ في ذلك أنَّ هناك فُرْنٌ مُقابلٌ لعيادة "الأنروا"، يصنع (المناقيش) بطريقةٍ احترافيَّةٍ وشهيَّةٍ جدًّا. وكان أبي يعلم تمامًا بأنَّني لا أشكو من شيءٍ، لكنه كان يُسارع بأخْذي إلى العيادة.. فعجينة تلك "المناقيش" كانت تستحقُّ الانتظار.

كان الأطبَّاءُ لا يستطيعون رفْعَ رؤوسهم من شِدَّة الضغط، ومن الأعداد الهائلة للمرضى التي تطلب الاستشفاء، فمنهم من كان يداوي بطريقة إنسانية عالية الجودة، ومنهم من يريد أنْ ينتهي سريعًا من فحص المرضى، فيصِف لهم مُضادًّا حيويًّا وخافضًا للحرارة، وهذه الوصفة هي التي كانت تستخدمها العيادةُ بشكلٍ مُفرِطٍ.

ننتهي في جولتنا بين العِيادة والفُرْن.. يتوجَّه أبي مباشرة إلى زيارة عمَّتي التي تسكن في "صيدا". كان يشعر بأنَّه يَخُون ذاكرة طفولته إنْ لم يَقُم بتلك الزيارة.. هذا أبي الكثير العطاء، المُواظب على صلة رحمه، وصاحب القلب الكبير.

لم أكن أجِيد المكوثَ لمُدَّة طويلةٍ بعيدًا عن "وادي الزينة"، وهي المنطقة التي أقيمُ فيها ما عائلتي، رغم حبي الكبير لمدينة "صيدا"، لهذا تجدني ما أنْ يمُرَّ بعضُ الوقت حتى أطلب من أبي أن نعودَ إلى بيتنا. لَربَّما اللُّجوءُ نهَشَ قلوبَنا مُذْ كنَّا صغارًا، فقد كان يُخيفني أيُّ نوعٍ من أنواع البُعد، ولا أريد شتاتًا آخر.