"لا نشرب القهوة إلا في بيوت الأصدقاء".. كان هذا رد سيدات فلسطين الحرائر على مندوب الاحتلال البريطاني اللورد تشانسبلور عندما دعاهن لشرب القهوة بعد تقديمهن عريضة طالبن فيها بإلغاء وعد بلفور ومنع الهجرة اليهودية وإقالة المسؤولين عن تعذيب المعتقلين الفلسطينيين.. ثم خرجن في مسيرة في شوارع القدس بعد انتهاء أول مؤتمر للحركة النسائية الفلسطينية يوم 26 تشرين الأول من عام 1929 ترأسته السيدة زكية الحسيني ومعها محفوظة النابلسي وكاترين شكري ذيب، ومتيل مغنم... وصنفت مظاهرتهن لدى الباحثين بأنها ثاني أكبر مظاهرة بعد مظاهرة شباط في العام 1920 ضد سياسة دولة الاحتلال (الانتداب) المملكة المتحدة (بريطانيا).

ارتقى الوعي الوطني إلى مستويات أعلى وأوضح وكذلك الإدراك بالخطر الوجودي المحدق بالشعب الفلسطيني لدى نخب اجتماعية وثقافية وسياسية مع ابتداء جريمة الدولة الاستعمارية بريطانيا التاريخية بحق الإنسانية، بمنحها المنظمة الصهيونية حق إنشاء "وطن ليهود" من جنسيات متعددة بعيدة جغرافيا ولا تربطها أي صلة تاريخية بأرض ووطن الشعب الفلسطيني (فلسطين)، وهذا الارتقاء مسنود بدعوة المؤتمر الأول "لتشكيل حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي تتصدى لوعد بلفور، واعتبار من يقبله "خائنا لوطنه وأمته" ما يعني أن سيدات فلسطين استطعن برؤيتهن وقراءتهن المتقدمة لوعد بلفور أن قادم الأيام يحمل مخططا استعماريا لتدمير الوطنية العربية الفلسطينية تمهيدا لتحويل اليهودية من معتقد إلى قومية، كإرهاصات لإنشاء كيان استعماري موظف ومستخدم لصالح دول استعمارية كبرى!.

يحق لنا اعتبار اليوم الوطني للمرأة أبعد وأعمق في معانيه وأبعاده الموضوعية من ذكرى أول مؤتمر نسائي فلسطيني في القدس، على أهمية هذا الموضوع من ناحية تنظيم قوى الشعب الفلسطيني الحية، فلنساء فلسطين محطات هامة في مسيرة النضال والوعي الوطني بمفهومنا المعاصر عندما خرجن للتظاهر ضد الاستيطان اليهودي في العام 1839 أي قبل تسعين عاما من مؤتمرهن الأول بالقدس وتحديدا في بيت السيدة طرب عبد الهادي، زوج عوني عبد الهادي في حين شاركت فيه ثلاثمائة سيدة، أتين من مدن وقرى ومثلن شرائح ثقافية واجتماعية وسياسية.

للنساء في فلسطين شرف المبادرة في إطلاق عملية تغيير وتحرر اجتماعي وتنوير ثقافي ونضال سياسي وطني، وعلامة ذلك الجمعيات والمؤتمرات، ومساهمتهن الفاعلة في الثورات ولم يكن ذلك إلا إدراكا ذاتيا لقيمتها ومكانتها وكينونتها الإنسانية ولعل تأسيس (الجمعية النسائية الأرثوذكسية) في العام 1903 باعتبارها أول جمعية نسائية في فلسطين أحد المؤشرات الكثيرة على النهضة الوطنية حيث كان وما زال للنساء شرف تكوين بيئتها ومناخها وأدواتها، وتكريسها كحقيقة مادية إبداعية ملموسة متكاملة بذلك مع نضال النصف الآخر.

نتحمل جميعنا المسؤولية عن كيفية تحويل اليوم الوطني لنساء فلسطين الى يوم نستبشر فيه النصر، فحرية الوطن مرتبطة بحرية وحقوق إنسانه وتحديدًا الأنثى، ذلك أن حرية الانسان لا تصنف وفق: هذا ذكر وتلك أنثى، لأنها ليست ملكًا لأحد حتى يمنحها للآخر..وبهذه المناسبة ومع كل يوم يجب أن نفكر ونعمل على كيفية التحرر من عادات ومفاهيم ذكورية أسقطتنا -رغم تاريخنا المشرف- في مستنقع المجتمعات القشرية الاتكالية العاجزة عن إنتاج أفكار خلاقة!

لا بد من العمل بأقصى طاقاتنا الفكرية، والنضالية العملية لإزالة العوائق الملصوقة كالألغام في مفاهيمنا الراسخة في أدمغتنا وذاكرتنا، وذلك كحق للإنسان الأنثى الفلسطينية بما يمكنها من استعادة مكانتها الطبيعية الرائدة في المجتمع، وبمعنى أدق ألا نبقي على عوامل ضعفنا وتخلفنا بأيدينا! فالإنسان الأنثى شخصية مستقلة وليست تابعا ولا مرادفا، فقيمتها ليست لأنها زوج شهيد، أو أم أسير، أو..أو !!! وإنما لأنها إنسان بمنهج مدرسة إن لم تكن جامعة.

عندما نتحرر من عقلية اتباع النساء للرجال، ونكف عن منحهن صفات وسمات وأوسمة من اختراعنا في المناسبات، سنكون فعلاً لا قولا ولا تظاهرًا مؤمنين بالحرية والتحرر والعدل والمساواة كمبادئ للمُوَاطَنة في المدينة الفاضلة.. فالإنسان الأنثى كيان إنساني مستقل ومن يتعامل معها بغير هذه الحقيقة، يعني أنه ما زال مستعبدا وخاضعا لشهوتي السطوة والتسلط، وهذا ذروة التناقض، ليس مع الطبيعة بل مع الإنسانية..فالنساء في وطني رائدات، يتحدين بأفكارهن وإراداتهن المتحررة أصلا، وبنضالهن العملي، نزعة التخلف السائدة في المجتمع، ليس لأنهن ضحاياها وحش (التخلف والتسلط الذكوري) وحسب، بل لأنها لا تريد لهذا الوحش أن يبطش بالنصف الآخر من مجتمعها.

المصدر: الحياة الجديدة