\ إنّ الصُّوَر التي عُرِضَت في كتاب "حيفا، الكلمة التي صارت مدينة"، للباحث المؤرخ جوني منصور* هي بحد ذاتها - بعيدًا عن المادة القيّمة والشرح المستفيض المرافق للصوَر-  تضفي حنينًا ووجعًا كبيريْن في نفس كُلِّ حيفاويٍ مقيمٍ فيها أو مُبعَدٍ عنها منذ العام 1948، وحتى أولئك الذين مرّوا عبرها لبعض الوقت فإنّ حيفا كانت مصدر حُبهم وإلهامهم، حيفا الجميلة التي رآها مَن اقتنى الكتاب، أحبها، وبكى لتغيير معالمها، حيفا التي تأخذك إلى البحر وتعيدك متعطشًا للماءِ والمكان، حيفا التي كانت جميلة بأهلها وطبيعتها الخلابة، بكرملها وكنائسها وفنادقها، وزوار المدينة، هي سببٌ رئيس لجريمة الاحتلال.

حيفا صامدة رغم التدمير والتهجير والاستهداف
كُل صورةٍ في الكتاب الألبومي، تشيرُ إلى حياةٍ لا مثيل لها، إلى استهدافٍ غير مبرَّرٍ لإزالة الفرح في معالمها، فنٌ وتراثٌ وإبداعٌ في الصورة المأخوذة من البومات أهل حيفا، ومعظم أبطالِ المشهد الحيفاوي في الكتاب قد رحلوا عنّا، وجزءٌ كبيرٌ منهم هُجِّروا وانتكبوا في الغربةِ، وعاشوا سنواتٍ من الحنين القاتلِ الذي افضى بهم في النهاية إلى موتٍ قاسٍ ورحلة عمرٍ مؤلمة.
الكاتب يأخذنا عبر صفحاته إلى حيفا الجميلة، التي نحبُّها، حيفا التي قُتلَت أكثر مِن مرّة، لكنّها عادت إلى الحياة من جديد، حيفا التي هُجِّر أهلُها، ولكنّها ظلّت على مدى السنوات، تنطِق بالحياةِ والأمل.
كتابٌ يحملُ قصصًا وروايات لم تُكتَب لكنها حافلة بالأحداث والتواريخ والتفاصيل الجميلة بالأساس، كيف لا والحريّة والفن والثقافة والمشاركات والعلاقات الإنسانية، والأحلام الكبيرة لأهل المدينة، ظلّت ترافقهم حتى بعد الاحتلال.
لذا كانت حيفا وما زالت "الكلمة التي صارت مدينة"، والمدينة التي ستبقى في الذاكرة والحنين لأهل فلسطين جميعًا، وليس لأهلِ المدينةِ فقط! تستحقُ حيفا كل هذا الاهتمام والحُب، وهي التي بقيت رغم التدمير والتهجير والاستهداف، صامدةً ولا يزال أهلها المقيمون فيها، يتمسكون بما بقي فيها إلى الأبد!

أُمسية لإطلاق كتاب "حيفا؛ الكلمة التي صارت مدينة"
كان مسرح الغربال قد شهد مؤخرًا، حفلاً خاصًا بمناسبة صدور كتاب "حيفا؛ الكلمة التي صارت مدينة"، للمؤلِف الباحث جوني منصور، وجاءت المشاركة بمناسبة إطلاق الكتاب، كبيرة جدًا، أكثر مما هو متوقّع، وإنّ دلّ هذا الحضور على شيء، فإنه يدلُ على تعطّش أهل حيفا لتاريخهم ما قبل النكبة. صورٌ وذكريات تعيدك إلى الماضي العريق، إلى حياةٍ جميلة، إلى فنٍ وإبداعٍ وعمران، وليسَ صدفةً أن تسقُط حيفا بين براثن المحتلين، فحيفا، التي سكنها كثيرون، كانت رمزًا لحضارةٍ شرق اوسطيّة مُشرقة، لعلّ التأكيد على معنى هذه المدينة، لا ينحصر فقط في الصورةِ بل في الحضور والذاكرة الجمعيّة.

وواضحٌ حُب أهل حيفا للمكان الذي عاشوا فيه بأمنٍ ورخاءٍ وسلام، قبل الاحتلال.
في كلماتهم التي ألقوها تحدّث كلٌ من عريفة الحفل، الإعلامية أسماء عزايزة، والباحث البروفيسور إيلان بابه، ومرورًا بمخطّط المدن البروفيسور يوسف جبارين، عن حيفا باهتمام وذكّروا الحضور بمعنى الاحتلال ووحشيته وطمعه، ومحاولاته لطمس المعالم، واقتلاع جذور الفلسطيني، وزرع  غرباء لا يعون قيمة ومعنى كل حجرٍ في المدن الفلسطينية مؤكّدين أن أهلُ المدينة يعرفون كيف يحمونها ويحفظون إرثها، وأن الكلمة والصورة والحياة في حيفا وسائر المدن يصعُب محوها، فهي جزءٌ من المكان والحضور الباقي في أهل المكان الأصليين.
وفي كلمة الباحث جوني منصور، بمناسبة إصداره لكتابه الجديد الهام جدًا، حيفا، الكلمة التي صارت مدينة، وهو كتابٌ ضخم يحوي أكثر من 500 صفحة باللونين الأسود والأبيض، دمج الباحث، بصورةٍ شيّقة وبتصميمٍ مميّز للفنان نهاد بقاعي، بين معنى الكلمة في حياة حيفا وأهلها، وبين الصورة التي توحي بمعانٍ رائعة عن حياةٍ كاملة للفلسطينيين الذين عاشوا قبل نكبة العام 1948.
ومما جاء في كلمته "منذ ما يقرب من ثلاثة عقودٍ وأنا منهمك بدراسة تاريخ هذه المدينة، إضافة إلى قضايا تاريخية وسياسية وثقافية أخرى تخص شعبنا ووطننا، لكن شأن حيفا، كان قريبًا ومستوليًا عليّ وله مذاقٌ خاص، لسببين رئيسين أولهما ما كنت استمع إليه من والدي رحمه الله ومن أعمامي أطال الله بأعمارهم ومن كبار السِن، وثانيًا ما عشته أنا من خبرة شخصية في الغوص بتاريخ هذه المدينة، كنت دائمًا منبهرًا بها، وبما شكّلته من ذاكرة قوية ومميّزة في خفايا وخبايا عقول وأحاسيس الناس الذين بقوا فيها، أو هجروا عنها قسريًا وبطرقٍ ارهابية اجرامية، وهكذا بدأتُ أنتقل من الخاص إلى العام مدركًا مكانة المدينة وما أدته من أدوار في تشكيل المجتمع المديني الفلسطيني، فحيفا تستحوذ على حيزات واسعة في مستودع الذاكرة الفلسطينية، لكونها مدينة شهدت نموًا وتطورًا كبيريْن، خلال حقبة زمنية قصيرة جدًا قياسًا بمدنٍ أخرى، فتحوّلت من قرية صيادين إلى مدينةٍ تحمل كافة مكوّنات المدينة الحديثة والمعاصرة، وأكثر من ذلك فإنها كانت مدينة مفتوحة للشرق والغرب معًا".
وأضاف د.منصور: "إنّ الكتابة عن حيفا فيها الكثير من الإثارة والجدل، حيثُ تشكّلت فيها مشهدية حياتية رائعة جدًا، شملت النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والصحافية والتربوية والدينية والفكرية والرياضية، كل هذه ساهمت في إتاحة الفرصة أمام أهلها والوافدين اليها طلبًا للعلم والعمل للتزود بما تبدعه من فكرٍ وثقافة وحياة اجتماعية".
أمّا عن الجرائم التي ارتُكِبت في حيفا فقال د.جوني منصور: "لقد تعّرض مشهد نمو وصعود هذه المدينة إلى جريمة نكراء في العام 48، على يد مشروع كولونيالي اقتلاعي تبنّته الحركة الصهيونية مدعومة من الدول الاستعمارية وفي مقدمتها بريطانيا والرجعية العربيّة، ولا زال المشروع قائمًا من خلال محو وإبادة المكان إبادة عمرانية وثقافيّة، فحيفا مثلاً تمّ تدمير أحياء فيها بكاملها، مثل حي روشميا وحي وادي الصليب، وحي محطة الكرمل العتيقة التي يشهد إلى الآن إبادة كاملة في زمننا على يد آلة الحكم المحلي بحيث لم يبقَ فيه إلا 27 عائلة، من أصل 600 عائلة في العام 48، وليست المسألة في تدمير حي هنا وآخر هناك، بل في تمزيق نسيج المجتمع الفلسطيني وتفتيته وبعثرته بحيثُ لا يبقى له شكلٌ ولا لونٌ ولا هدف، كل هذا خدمة لمشروع اقتلاعي استعماري يهدف إلى إحلال مجموعات أخرى محل شعبنا".
وتابع "صورة هذا الماضي المشرقة يجب أن تعزز لها أساسات في ذاكراتنا الجمعية، بحيثُ نعيد حضور المدينة حيفا في وجداننا مؤكدين أولاً لأنفسنا ثم لغيرنا أننا لسنا ضيوفًا ولا حالة طارئة إنما نحنُ أبناء هذه المدينة، وما بناه الآباء سواء من الأهالي أم من خارج فلسطين، كان بهدف تشكيل مجتمعٍ متقدمٍ وراقٍ وحديث"، وختم كلامه قائلاً: "لهذا فإنّ الكتاب الألبومي هي فتح بابٍ جديد لدراسة الإنسان والمكان، دراسة المجتمع الفلسطيني المديني من خلال صور العائلات وفهم وإدراك أنماط حياتها ورؤاها، الحياتية والواقعية، ولهذا جاء إصدار الكتاب ليعيد للمدينة شيئًا من كرامتها، شيئًا من عبقها، شيئًا من تاريخها المجيد".


اعداد: غادة أسعد