لم يَحْظَ أيُّ زعيمٍ أجنبيٍّ بالمكانةِ التي يحظى بها الرّئيسُ الفرنسيُّ الرّاحلُ جاك شيراك في قلوبِ الفلسطينيّينَ. نعرِفُ أنَّ لفرنسا علاقاتٍ وطيدةً بالدّولةِ العِبريّةِ منذُ تأسيسِها، وندرِكُ مدى تأثيرِ جماعاتِ الضّغطِ الصّهيونيةِ في السياسةِ الفرنسيّةِ، لكنَّ فرنسا ظلّتْ حريصةً على الاحتفاظِ بعلاقاتٍ مميّزةٍ معَ فلسطينَ ومدافعةً عن حقّ الشّعبِ الفلسطينيّ بالحريّةِ والاستقلالِ الوطنيِّ، ومارستْ وتمارسُ دورًا رياديًّا داخلَ الاتحادِ الأوروبيِّ للحفاظِ على موقفٍ موحَّدٍ متمسّكٍ بحلِّ الدّولَتَيْنِ وبعدمِ شرعيّةِ الاحتلالِ والاستيطانِ الإسرائيليّ في فلسطينَ بما يشملُ القُدسَ الشّرقية. وتتميّزُ السياسةُ الفَرنسيّةُ في هذا المجالِ بثباتِها منذُ بدايةِ الاحتلالِ الإسرائيليّ عام ١٩٦٧، رغمَ تبدّلِ الرؤساءِ والحكوماتِ والأحزابِ الحاكمةِ، بدءًا من شارل ديغول وصولاً إلى إيمانويل ماكرون. إلّا أنَّ الفضْلَ يعودُ للراحلِ جاك شيراك في ترسيخِ صورةِ فرنسا في الذّاكرةِ الفلسطينيّةِ والعربيّةِ كدولةٍ تحترِمُ التزاماتِها بالحفاظِ على السّلمِ وبالدّفاعِ عن حريّةِ الشعوبِ وبالاستقلاليّةِ عن السياسةِ الأمريكيّةِ بكلِّ ما تشكّلهُ من تهديدٍ للأمنِ والاستقرارِ العالَمِيّينِ.

 

يحتفظُ شعبُنا للراحلِ شيراك بمواقفَ كثيرةٍ، كانَ أكثرَها دلالةً ورسوخًا في الذّاكرةِ هو موقفُهُ أثناء زيارتِهِ للقُدْسِ المحتلّةِ عام ١٩٩٦، فقد انحازَ للمقدسيّينَ الذينَ أحاطوهُ بالحفاوةِ وحُسنِْ الاستقبالِ، ووبّخَ عناصرَ الأمنِ الإسرائيليّ الذينَ لمْ يمنعْهُم وجودُ الرئيسِ الفرنسيِّ من ممارسةِ ما اعتادوا عليهِ من قَمعٍ ضدَّ أصحابِ الأرضِ الشرعيّينَ. وكانَ العالَمُ شاهدًا على شجاعةِ شيراك وهو يُلقي بالدبلوماسيّةِ جانبًا ويَدفعُ رجلَ أمنٍ إسرائيليٍّ بقوّةٍ وينهرُهُ مهدّدًا بأنّهُ سيستقلُّ طائرتَهُ ويعودُ إلى فرنسا إنْ لمْ تتوقّفْ ممارساتُ المحتلّينَ التي تحاولُ الفصْلَ بينَ الزّائرِ الفرنسيِّ ومضيفيهِ من أبناءِ القُدس.

 

كان التحضيرُ الأمريكيّ لغَزوِ العراقِ بدايةَ تطبيقِ شعارِ "الفوضى الخلّاقةِ" الذي رفعهُ جورج بوش الإبنُ ومَن حولَهُ من المحافظينَ الجُدُدِ المَسكونينَ بالتّفسيرِ الصّهيونيّ المشَوِّهِ للتّاريخِ، ونُدِركُ مدى ما مارستْهُ إدارةُ بوش من كذبٍ وابتزازٍ وتهديدٍ وهي تحاولُ تشكيلَ تحالُفِ العُدوانِ على العراقِ، ولعلَّ مشهَدَ كولن باول وزيرِ خارجيّةِ أمريكا وهو يلَوِّحُ أمامَ مجلسِ الأمنِ بأنبوبِ اختبارٍ صغيرٍ مدّعيًا أنهُ يمثّلُ عيّنةً منْ "أسلحةِ الدّمارِ الشّاملِ" العراقيّةِ، قد دخلَ التاريخَ كمثالٍ للكذبِ والاحتيالِ والخداعِ والغشّ. وفي خِضمّ الهجمةِ الأمريكيّةِ المَسعورةِ كانَ الموقفُ الفرنسيُّ بقيادةِ الرّاحل شيراك مثالاً للتمسّكِ بالقانونِ الدوليِّ والحفاظِ على سلامةِ الدّولِ واستقلالِها، وبهذا حافظتْ فرنسا على تمايُزِها عن السياسةِ الأمريكيّةِ، وعلى دورِها المستقلِّ الذي تنتهجهُ بعيدًا عن الهيمنةِ الأمريكيّةِ، وهو موقفٌ تتمسّكُ بهِ فرنسا بقيادةِ ماكرون، وخاصّةً فيما يتعلّقُ بصفقةِ القَرنِ وما يرافقُها من ممارساتٍ أمريكيَةٍ عبثيّةٍ. 

 

لا تكتمِلُ تفاصيلُ الصّورةِ التي يحتفظُ بها شعبُنا للرّاحلِ شيراك إلّا بالعودةِ إلى الفَصْلِ الأخيرِ من حياةِ رمزِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ الشهيدِ الخالدِ ياسر عرفات. فقدْ كانت باريسُ آخرَ عاصمةٍ "يزورُها" أبو عمّار في رحلتِهِ الأسطوريّةِ بينَ المنافي والوطنِ، وكأنّهُ أرادَ أنْ يقولَ لفرنسا "شكرًا" ولكنْ بطريقَتِهِ الخاصّةِ، وهي اختيارُ عاصمتِها لتكونَ نقطةَ "العودةِ النهائيّةِ" إلى الوَطنِ، وهو الذي يَحفظُ لهذهِ الدّولةِ دورَها أثناءَ حصارِ بيروتَ عام ١٩٨٢، وطرابلس عام ١٩٨٣، ففي الحالَتَيْنِ كانَت السُّفنُ الفرنسيّةُ رفيقَ أبو عمّار في سِفْرِ الخُروجِ الذي لا ينتهي. لقد فتحَ شيراك أبوابَ فرنسا ووضعَ كلَّ ما تملكهُ من إمكانيّاتٍ لإنقاذِ أبو عمّار من "حصارِ" السُّمِ القاتلِ، وعندما اكتملتْ أسطورةُ طائرِ الفينيقِ الفلسطينيّ أكملتْ فرنسا ورئيسُها جاك شيراك مسيرةَ الوفاءِ لرمزِ النّضالِ الفلسطينيّ وودّعتْهُ بكلِّ ما يليقُ بأبطالِ الأساطيرِ من مظاهرِ الإجلالِ والاحترام.

 

*يمكنُ لموقفٍ واحدٍ أنْ يكونَ بوّابةً يَدخلُ منها زعيمٌ أو قائدٌ إلى الجانبِ المُشرِقِ من التّاريخِ. أما الرّاحلُ شيراك فقد أصرَّ أن يَدخُلَ تاريخَ فلسطينَ من بوّاباتِ المدينةِ القديمةِ في القُدْسِ، ومنْ وَداعِ طائرِ الفينيقِ الفلسطينيِّ أبو عمّار وهو عائدٌ لينامَ على صَدْرِ الوطنِ. يقدّرُ شعبُنا ذلكَ ولنْ ينساهُ، لذلكَ يقولُ للرّاحل الكبيرِ جاك شيراك: وداعًا.

 

٢٩-٩-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان