عندما يدورُ الحديثُ عن حلقاتِ الصراعِ الفلسطينيّ ضدَّ الغزوةِ الاستيطانيّةِ الصهيونيةِ فلا جِدالَ أنَّ الانتفاضةَ الثانيةَ -انتفاضةَ الأقصى هي أكثرُ المعاركِ ضراوةً في تاريخِ هذا الصرّاعِ المُمتَدِّ منذُ بدايةِ القرْنِ العشرين. ولا جدالَ في أنَّ لهذهِ الانتفاضةِ مكانةً في الوَعي الفلسطينيِّ المعاصِرِ لا تقلُّ عن ملحمةِ الصّمودِ في بيروت. وفي الحالَتينِ يظنُّ مَن لا يُحسنُ قراءةَ التّاريخِ جيّدًا أنَّ العدوَّ قد حقّقَ فيهما ما أرادَ من أهدافٍ، لكنَّ مشكلةَ العدوِّ لمْ تكُنْ يومًا في قُدرتِهِ على حسْمِ المواجهةِ العسكريّةِ في ظلِّ تفوّقِهِ المُطلَقِ، وإنّما في عجزِهِ عن إدخالِ الهزيمةِ لتصبحَ جزءًا من قُوتِنا اليوميّ وإدخالِ الرُّعبِ في قلوبِنا. ولا بدَّ من التّذكيرِ أنَّ الصّراعاتِ الطويلةَ، وصراعُنا مع الغزوةِ الصهيونيّةِ واحدٌ منها، هذا إنْ لم يكُنْ أطولَها على الإطلاقِ، ليستْ سلسلةً منَ الانتصاراتِ المتواصِلةِ، ولو كانت كذلكَ لَما امتدَّ الصّراعُ كلَّ هذهِ السنين.

 

لم تكن الانتفاضةُ الثّانيةُ وليدةَ الصُّدفَةِ، فقد جاءت نتيجةً لتراكماتِ علاقةِ التّصادُمِ المباشرِ مع المشروعِ الصهيونيِّ الذي أدرَكَ مبكّرًا حجمَ الخطرِ الذي يشكّلهُ عليهِ الفهمُ الفلسطينيُّ لتفاهماتِ أوسلو، فعلى قاعدةِ هذا الفهمِ رفضَ أبو عمّار وأخوتُه في قيادةِ منظّمةِ التحريرِ الفلسطينيّةِ وحركةِ "فتح" محاولاتِ تمريرِ التفسيرِ الإسرائيليّ المدعومِ من أمريكا، وهو ما تجلّى في النهايةِ التي آلتْ إليها مفاوضاتُ "كامب ديفيد"، وهي نهايةٌ وضعتْ من الناحيةِ العمليّةِ حدًّا لمرحلةِ أوسلو بما كانت تمثِّلهُ من فترةٍ انتقاليّةٍ لا تتجاوزُ خمسَ سنواتٍ تنتهي بالحلِّ النّهائي. لقد وصلت المفاوضاتُ إلى نهايتِها، لذلكَ كانَ الصّدامُ حتميًّا لأنَّ آمالَ الشّعبِ الفلسطينيّ بالحريّةِ والاستقلالِ قد بلغَت أوْجَها. أمّا في الجانبِ الإسرائيليِّ فقد أرادَ اليمينُ استكمالَ ما بدأهُ باغتيالِ رابين، وهو التخلّصُ من شبحِ الدّولةِ الفلسطينيّةِ ووأْدِ فكرتِها تحتَ أنقاضِ المدنِ والقرى والمخيّماتِ الفلسطينيّة. وغنيٌّ عن القولِ أنَّ الانتفاضةَ كانت أولى المعاركِ التي يخوضُها معًا وتحتَ قيادةٍ واحدةٍ جيلان من أجيالِ النضالِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ: جيلُ انتفاضةِ الحجارةِ في الوطنِ، وجيلُ الفدائيينَ العائدينَ من ملحمةِ بيروتَ، ولعلّ هذا ما جعلَ الانتفاضةَ موجعةً ومفزعةً للعدوِّ، وهو ما جعلهُ يعتبرها تهديدًا استراتيجيًّا كرّسَ لمواجهتِهِ كلّ ما لديهِ من مخزونِ الأسلحةِ والكراهيةِ والإرهاب.

 

لا حاجةَ للتّذكيرِ أنَّ شعبَنا قد قدّمَ تضحياتٍ هائلةً خلالَ تلكَ الانتفاضةِ، وهي تضحياتٌ شملت آلافَ الشّهداءِ والجرحى والأسرى، إضافةً إلى الدّمارِ الذي لحقَ بالبنيةِ التحتيّةِ الفلسطينيةِ. وفي المقابلِ كانت الانتفاضةُ زلزالاً ضربَ كلَّ مكوّناتِ دولةِ الاحتلالِ، بدءًا بالجيشِ، مرورًا بالمستوطنينَ الدُّخلاءِ، ووصولاً إلى العُمقِ الإسرائيليِّ. لقد أحدثت الانتفاضةُ حالةً من "توازُنِ الألَمِ" لم يكن المجتمعُ الإسرائيليُّ معتادًا عليه. وهنا لا بدَّ من التأكيدِ أنَّ اعتداءاتِ ١١ أيلول/سبتمبر ٢٠٠١ في نيويورك كانت بمنزلةِ طَوقِ النّجاةِ الذي تلقّفَهُ شارون ليخرجَ من جحيمِ الانتفاضةِ، وقد كانَ هذا الحدثُ الذي هزَّ العالَمَ وقلَبَ الأولويّاتِ والتحالفاتِ سببًا في توفيرِ المظلّةِ لسياسةِ التدميرِ والقتلِ المُنهَجِ وحصارِ القرى والمدنِ والمخيّماتِ واقتحامِها تباعًا، لينتهيَ المطافُ باقتحامِ "المقاطعةِ" في رام الله وحصارِ ِالشهيدِ القائدِ أبو عمّار في عرينِهِ، في ظلِّ صَمتٍ عربيٍّ ودوليٍّ مطبق، وهو الحصارُ الذي انتهى باستشهادِ القائدِ الخالدِ ليكونَ سيّدَ شهداءِ الانتفاضةِ الثانيةِ-انتفاضةِ الأقصى، وسيّدَ شهداءِ فلسطين.

 

*لم نُهزَم في بيروتَ، بل غادرناها لننتقِلَ إلى الوطنِ ونقاتلَ العدوَّ كلّما لزِمَ الأمرُ، وفي الوَطنِ تختلفُ المعاركُ عن سابقاتِها، فلا منفى بعدَ اليومِ. ولمْ تُهزَم الانتفاضةُ الثّانيةُ، فما زلنا متمسّكينَ بحقّنا في وطنِنا، ومنْ يساورُهُ الشكُّ في قدرةِ شعبِنا على الصّمودِ والتحدّي والتمسّكِ بأهدافِهِ الوطنيّةِ نَنصَحُهُ أنْ يقرأَ مجدّدًا الخطابَ الأخيرَ لرئيسِ فلسطينَ أمامَ الجمعيّةِ العامّةِ للأمَم المتّحدةِ.

 

٢٨-٩-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان