لا شيءَ أقسى على الإنسانِ منَ اضطرارِهِ لمُغادرةِ وَطنِهِ، ولا يُمكنُ أنْ يُقْدِمَ أحدٌ على ذلكَ إلّا لسببٍ قاهرٍ لا سبيلَ للجَمْعِ بينَهُ وبينَ البقاءِ في بيتِهِ بينَ الحجارَةِ والجُدرانِ التي مَنَحتْهُ ملامحَ وَجهِهِ ليعطيَها اسمَهُ ورائحةَ طفولتِهِ.

كانَ خروجُ سيّدِنا محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ منْ "وطنِهِ" في مكّةَ برفقةِ صديقِهِ الصِّدّيقِ أبي بكْرٍ في لحظةٍ هي الأقسى من تاريخِ الرّسالةِ النبويّةِ، ولَنا أنْ نَتخيّلَ هشاشةَ الفاصلِ بينَ استمرارِ الرّسالةِ وانتصارِ قوى الشرِّ، فلا شيءَ أكثرَ وَهنًا مِنْ بَيتِ العَنكبوتِ الذي شكّلَ سَدًّا مَنيعًا فَصَلَ بينَ الحقِّ والباطلِ، ولا مَخلوقَ أكثرَ ضَعفًا مِنْ حَمامةٍ ترقدُ في عُشِّها وتَحرُسُ الرسولَ وصاحِبَهُ. ولعلَّ هذهِ اللّحظةَ تختزِلُ كلَّ ما يُمكنُ قولُهُ في وَصْفِ اللحظاتِ الصّعبةِ في التاريخِ الإنسانيِّ، لأنّها لحظةٌ تستهزئُ "بموازينِ القوى" وتَرفضُ فكرَ الاستسلامِ لمقولةِ انعدامِ الخياراتِ، فخيارُ الصّمودِ والتمسّكِ بجَمْرِ الفِكْرةِ هو الضمانةُ الحقيقيّةُ للحفاظِ على هذهِ الفكرةِ وانتصارِها.

 

المَشهدُ الثاني الذي يَختزِلُ المعنى الحقيقيَّ للهِجرةِ هو مَشْهدُ الاستقبالِ الحافلِ الذي أعدَّهُ أهلُ يثربَ للرّسولِ المُهاجرِ مِن "وطنِهِ"، وهو القادِمُ الذي لا يحمِلُ معهُ سوى رسالَتهِ التي هاجرَ من أجلِ صيانتِها. لقد كانَ نشيدُ "طلَعَ البَدْرُ عَليْنا" نشيدًا حَفظِهُ التّاريخُ كدليلٍ على أنَّ الفارِقَ بينَ الهَزيمةِ والنّصرِ ليسَ سوى لحظةٍ من الإصرارِ والإيمانِ بالحقِّ وبِسُموِّ الهدفِ وجدارتِهِ بالتضحيّةِ، فالمسافةُ بَيْنَ مَشهدٍ يلوذُ فيهِ المهاجرانِ بكَهفٍ تسدُّ مدخَلَهُ خيوطُ بيتِ عنكبوتٍ وتحرسُهُ حمامةٌ عَزلاءُ، وبَيْنَ جُموعِ "الأنصارِ" المرّحبينَ بالقادِم الجديدِ وصديقِهِ، هي المَسافةُ بَيْنَ مرارةِ "يا وَحْدَنا" وآفاقِ تَحقيقِ الهَدفِ وانتصارِ الفِكْرةِ وهَزيمةِ قوى الباطِل.

 

لا تَكتَملُ حِكايةُ الهِجرةِ إلّا بمَشْهدٍ ثالثٍ يَتمثّلُ بدُخولِ رسولِ اللهِ إلى مَكّةَ عائدًا إلى "وطَنِهِ" فاتحًا مُنتصرًِا يُحطّمُ بعَصاهُ أصْنامَ الجَهلِْ ويُنهي عُصورَ الجاهليّةِ ليُعلِنَ بدايةَ عَصْرِ الدّولةِ العربيّةِ الإسلاميةِ بثَقافَتِها وحَضارتِها وإثْرائها لكُنوزِ التّراثِ البَشَريّ. لقد اكتملتْ دَوْرَةُ التّاريخِ التي بدأتْ بخُروجِ الرّسولِ والصِّدّيقِ مُتَدَثّرَيْنِ بعِتْمةِ الليلِ أغنياءَ بالإيمانِ باللهِ وبالرّسالةِ النَّبيلةِ، وانتهَتْ بفَتْحِ مَكّةَ وهزيمةِ مُعسكرِ الجاهليةِ وبانتصارِ كلمةِ الحقِّ التي انطلقتْ في فضاءِ مكّة بصوتِ بلالٍ وهو يؤذّنُ في الناسِ: "اللهُ أكبرُ". 

 

ولأنَّ اللهَ هوَ الحقُّ المُطْلَقُ فإنّنا نُردّدُ اليومَ أذانَ الإيمانِ بالنّصْرِ: "الحقُّ أكْبَرُ من جَبَروتِ أعْدائنا".

 

عِندَما يُحاولُ اليأسُ أنْ يتسلّلَ إلى "الغارِ" الذي نَحتمي في داخِلهِ في أصْعَبِ لَحظاتِ مَشروعِنا الوطنيِّ عَلَيْنا أنْ نَتذكّرَ أنَّ أصْعَبَ اللّحظاتِ هي أقرَبُها إلى بَوّابةِ الفَجْرِ، وعِندَما يَجتَمعُ أشرارُ العالَمِ ويَظنّونَ أنَّ شعبَنا قدْ أصبحَ وَحيدًا لا خَيارَ أمامَهُ سوى الخُضوعِ لإرادةِ الباطلِ عَلَيْنا أنْ نتذَكّرَ الآيةَ الكريمةَ التي تلخّصُ كلَّ معاني الهِجرةِ النبويّةِ:

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ۖ) 

 

صَدَقَ اللهُ العَظيم

 

٣١-٨-٢٠١٩

 

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان