كان خبر توقيع الاتفاقية بين التجمُّع الوطني لأسر شهداء فلسطين، ونقابة الأطباء، لإعفاء أسر الشهداء من دفع رسوم الكشف الطبي في العيادات الخاصة، للأطباء المسجّلين في النقابة في محافظات الضفة الغربية، كان في نظرنا حدثًا وطنيًّا يستحق نيل الاهتمام وتركيز الضوء عليه، نظرًا لتوقيته، والمغزى العظيم الذي يحمله هكذا عمل وطني ليس جديدًا ولا غريبًا عن أطباء فلسطين الذين ما عرفناهم إلا ملائكة كالفدائيين لا يمنعهم ظرف ولا جحيم حرب عن أداء مهامهم الإنسانية.

الاتفاقية برهان آخر على مدى الانسجام بين توجهات وقرارات القيادة السياسية الفلسطينية، وقرارات وتوجهات القوى الحية الأهلية في فلسطين، فنقابة الأطباء الفلسطينيين ليس مطلوبا منها الانخراط في سباق إصدار البيانات السياسية، وتصدير المواقف اللغوية والكلامية حول القضايا الوطنية ومنها على سبيل المثال كحدث مرتبط، خصم سلطات الاحتلال من عائدات الضرائب الفلسطينية، قيمة المخصصات المدفوعة من السلطة لعائلات الشهداء وللأسرى، وإنَّما تكريس إنسانية المهنة في أبهى صور الالتزام الوطني، ما يعني القدرة على إبداع عنوان لمنهج المهنة مثل (الإنسانية الوطنية).

يؤكد الرئيس أبو مازن في كل مناسبة على أولوية عائلات الشهداء والأسرى، والاستمرار بدفع المخصصات كاملة لهم حتى آخر دينار واحد في خزينة الحكومة وارتفعت وتيرة مواقفه الثابتة بهذا الخصوص بعد جريمة الاحتلال باقتطاع قيمة رواتب الأسرى ومخصصات عائلات الشهداء من أموال الضرائب التي تجبيها، وإعلان الاتفاق اليوم انعكاس طبيعي لهذه المواقف السياسية الوطنية، ولكن بصيغة (الإنسانية الوطنية) التي ابدع أطباء فلسطين في تقديم صورها في سجل من العطاء والتضحية تستحق إخراجها في روايات وأفلام وثائقية وروائية، وأعمال فنية كونها الأقدر على اختراق الذاكرة الفردية والجمعية والتجذر فيها.

أبناء الشهداء يحظون في بلاد عربية بامتيازات لعل أهمها التعلم المجاني، أو التذاكر المخفضة أو حتى المجانية التي تؤهلهم استخدام في مرافق ومواصلات الدولة، ولعلّنا في هذا المقام نطمع برؤية خبر اتفاق بين التجمع الوطني لأسر الشهداء واتحاد الجامعات الفلسطينية واتحاد نقابات العاملين في الجامعات، والاتحاد العام لطلبة فلسطين، يزف بشرى إعفاء أبناء الشهداء والأسرى من رسوم التعلم في الجامعات.

يجب التأكيد على نقطة هامة هنا وهي أنّ معظم الشهداء والأسرى الذين انضموا للعمل الكفاحي والنضالي الوطني كانوا من ذوي الدخل المتوسط والعالي ما يعني أن الدافع في طلب تأمين الامتيازات لعائلاتهم وأبنائهم لا يخضع لمعايير المشاكل الاجتماعية والحالات الإنسانية، وإنّما لمعايير ومبادئ الالتزام الوطني، وبقيم ولوائح وقوانين ونظم حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، وكذلك ثقافة المجتمع حيث المكانة الرفيعة والمحمودة للشهيد، والتعظيم والبطولة للأسير.

اتفاق التجمع الوطني ونقابة الأطباء نموذج وطني متقدم، بإمكاننا الارتكاز عليه لتثبيت دعائم صمود ومقاومة شعبية سلمية، وتوسيع ميادينها، ذلك أن التكافل والتكامل في المهام الوطنية، ويعزز العلاقة والرؤيا والمواقف ما بين الرسمي والشعبي ما يؤمن الديمومة لبرنامج النضال الوطني الذي لن يكون بالإمكان اعتباره كذلك مالم تتفاعل كل الكيانات المجتمعية والمهنية والسياسية، وتخرج بخلاصات نظرية وعملية لتحقيق أهدافها، وبذلك نحقق المشاركة الشعبية في القرار الوطني ورسم أهداف وطبيعة كل مرحلة، حتى يتحقق الاستقلال وقيام دولة ذات سيادة، ومؤسسات سيادية قادرة على القيام بمهامها وتقديم خدماتها للشعب، عبر توظيف إمكانياتها لتحقيق وتجسيم الأولويات التي مهما بلغ حجمها وطول قائمتها فان الشهداء والمحررون حينها سيكونون على رأسها، وهذا حال كل الشعوب التي ناضلت وكافحت وصارت دولا عظيمة وقوية ومتقدمة فضل تضحيات أبطالها.