من الألاعيب المفضوحة في سياسة الإدارة الأميركية فرض عقوبات على بعض المستعمرين الاسرائيليين، كان آخرها فرض عقوبات على كتيبة "نيتساح يهودا" المتدينة الأرثوذكسية النازية من لواء كفير، ثم أمس تم إلغاءها، مما يكشف رياءها ونفاقها وأكاذيبها، فهي حتى لم تحاول إبقاء العقوبات شكليا للضحك على دقون الفلسطينيين والعرب، ولمواصلة خداعهم لبعض الوقت بغية ذر الرماد في عيونهم، وعيون الرأي العام العالمي للتخفيف النسبي من جريمة "الكيل بمكيالين" وبانتهاج سياسة "المعايير المزدوجة". هذا ما أعلنه أول أمس الجمعة انتوني بلينكن وزير الخارجية الأميركية، ولتبرير التراجع قال: "إن عدم فرض عقوبات لا يتعارض مع "قانون ليهي" الذي أقره الكونغرس الأميركي 1997، وبموجبه تتم معاقبة الوحدات العسكرية التابعة للبلدان التي تتلقى دعمًا أميركيًا، والتي تقوم بانتهاكات لحقوق الإنسان. وكان سبقه رئيسه بايدن بالإعلان، أنه "لن يفرض عقوبات على وحدات في جيش الموت والجريمة المنظمة الإسرائيلية.

والعتب على من تعجل الترحيب بالخطوة الأميركية، لأن المحاكاة المجتزأة لاستراتيجية الولايات المتحدة، وفصل تكتيك الإدارات المتعاقبة عن النواظم الأساسية لمصالحها الحيوية في الإقليم والعالم، واسقاط دورها في قيادة حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني قبل وبعد وجود إسرائيل، وتحديدًا حرب السيوف الحديدية الصهيو أميركية أعقاب 7 أكتوبر 2023، التي مضى عليها حتى الآن 205 يومًا تفقد أصاحبها القدرة على قراءة سيرورة الصراع الدائر على الأرض الفلسطينية عمومًا وفي قطاع غزة خصوصًا. كما لا تفيدهم مناوراتهم المكشوفة للأميركيين والإسرائيليين على حد سواء. لأنهم في معادلات السياسة يعتبرونهم أعداء، وجزء من منظومة "الإرهاب"، والدليل أن منظمة التحرير الفلسطينية موجودة حتى الآن على قوائم "الإرهاب" الأميركية، وحكومات إسرائيل المتعاقبة لم تعتبر يومًا القيادة الفلسطينية شريكًا في صناعة السلام، ليس هذا فحسب، إنما حكومات نتنياهو ال6 تصنف السلطة الوطنية الفلسطينية كمؤسسة "إرهابية"، وعمل زعيم التحالف النازي الإسرائيلي على ملاحقتها، وتجفيف مصادر حضورها وقوتها، وتبهيت صورتها ومكانتها في أوساط الشعب الفلسطيني، وتقوم بقرصنة أموالها، وتضغط بالشراكة مع واشنطن على نزع هويتها الوطنية، وتحويلها إلى "أداة مأجورة"، معتقدون ان قيادة منظمة التحرير يمكن أن تكون نسخة كربونية عن كانتون سعد حداد في جنوب لبنان، الذي تمت تصفيته عام 2000 بصبغة فلسطينية.

وكيف يمكن لعاقل للحظة الرهان على أي إدارة أميركية؟ طالما مازالت تطمس الحقوق الفلسطينية السياسية والقانونية وترفض الاعتراف بدولة فلسطين، وتحارب حصولها على مكانة عضو كامل في الأمم المتحدة، وتأتي بحاملات طائراتها وغواصاتها وبوارجها البحرية وقواتها البرية الى الشواطئ الفلسطينية، وعلى أرضها لدعم إسرائيل أداتها الوظيفية في سحق وإبادة الشعب الفلسطيني، وتقيم جسور جوية وبحرية لإمدادها بكل صنوف الأسلحة الحديثة والفتاكة لتجربها على أجساد الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين، ولاختبار قدراتها التدميرية على الوحدات السكنية والجامعات والمدارس وأماكن العبادة والبنى التحتية في قطاع غزة، والعمل على تهجير أبناء الشعب القسري من أرض وطنه الأم، وتضغط على الدول الشقيقة والأوروبية لاستقبال المهجرين الفلسطينيين، وتضع أقمارها الصناعية التجسوسية في خدمة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وتجييش حلفائها في الغرب لذات الغرض الاستعماري، وعلى أنقاض تبديد القضية والمشروع الوطني الفلسطيني، وترصد لإسرائيل مساعدات غير مسبوقة خلال من فبراير الى ابريل 2024 الحالي ما يزيد عن 31 مليار دولار، هذا بالإضافة الى 3,8 مليار دولار سنويًا المدرجة في الموازنة.
لعبة فرض العقوبات الأميركية على أي إسرائيلي، مهما كان موقعه مستعمرا حديثا ام قديما، ومهما كانت الجرائم والعمليات الإرهابية، التي يرتكبها مفضوحة، وعارية تمامًا عن الصحة، ولا يجوز أن تنطلي على أي فلسطيني أو عربي أو نصير للسلام. لأنها تتنافى مع ثوابت ومرتكزات الاستراتيجية الأميركية، ولا تستقيم مع منطق ومصالح الولايات المتحدة وفق محدداتها القائمة.

أما إمكانية حدوث تحول في المستقبل الوسيط في السياسة الأميركية، فإنها فرضية مقبولة. ولهذه الصيرورة إن حدثت مؤشرات تجاه المصالح والحقوق والأهداف الوطنية الفلسطينية والعربية، وستكون نتاج تطورات دراماتيكية في الجيو بوليتك العالمي، وفي أعقاب بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، ومع تقليص نفوذها في إقليم الشرق الأوسط الكبير، الذي يتلازم مع نهوض المشروع القومي العربي. أما قبل ذلك، وفي ظل الشروط السياسية والاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية القائمة، فإنها مستحيلة أو بعيدة المنال، وغير واقعية.