أدركت حركةُ "فتح" منذُ بداياتِها أهميّةَ الدّورِ الذي تحظى بهِ أوروبا في الصرّاعِ الفلسطينيِّ-الإسرائيليِّ، ففي أوروبا نشأت العقيدةُ الصّهيونيةُ بما شكّلتْهُ من أداةٍ لتعميمِ فكرةِ إنشاءِ "وطنٍ قوميٍّ" لليهودِ في فلسطينَ بينَ اليهودِ أنفسِهِم، إضافةً إلى حشدِ دعمِ وتأييدِ الدّولِ الأوروبيّةِ المحوريةِ لتنفيذِ تلكَ الفكرةِ، والذي تمَّ تتويجُهُ بتبنّي بريطانيا العظمى للفكرةِ الصّهيونيّةِ من خلالِ إصدارِ وعدِ بلفور في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر ١٩١٧، وما تبِعَهُ من تثبيتِ ما تضمّنهُ الوعدُ المشؤومُ ليصبحَ هدفًا محوريًّا لصكِّ الانتدابِ البريطانيِّ في فلسطينَ ولكلِّ السياساتِ التي نفّذتها بريطانيا خلالَ فترةِ الانتداب. 

وفي أوروبا تعرّضَ أتباعُ الديانةِ اليهوديّةِ لمأساةِ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ وما نتجَ عن ذلكَ من استغلالِ الحركةِ الصهيونيةِ لتلكَ المأساةِ من أجلِ الإسراعِ في تنفيذِ مشروعِ السّطوِ على فلسطينَ. علاوةً على الدّورِ المحوريِّ الذي قامت به أوروبا بعدَ النكبةِ في دعمِ الكيانِ الصهيونيِّ الناشئ وتثبيتِ دعائمِ دولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ على حسابِ الحقوقِ الوطنيةِ للشّعبِ الفلسطينيِّ، حيثُ دفعَ شعبُنا ثمنَ الجرائمِ التي ارتُكِبَت ضدَّ اليهودِ في أوروبا إبّانَ الحربِ العالميةِ الثّانيةِ دونَ أنْ يكونَ لهُ أيُّ دورٍ في تلكَ الحربِ.

 

من هنا كانت أوروبا الغربيةُ واحدةً من السّاحاتِ الرئيسةِ التي شهدت بداياتِ تشكيلِ النّواةِ المؤسِّسَةِ لحركةِ "فتح" من خلالِ مساهمةِ جيلِ الشبابِ الفلسطينيِّ الوافدِ إلى أوروبا حديثًا بحثًا عن العملِ أو العِلمِ أو بحثًا عن ملجأٍ أو منفى. وقد شكّلت الدّولُ الأوروبيّةُ الرئيسةُ ساحةَ عملٍ نضاليٍّ مميّزٍ، ففيها بدأ ترسيخُ قواعدِ التّمثيلِ الفلسطينيِّ الذي انتزعتهُ منظمةُ التحريرِ الفلسطينيّةُ بشكلٍ تدريجيٍّ، وهو تمثيلٌ أدركتْ دولةُ الاحتلالِ الاستيطانيِّ وأجهزةُ استخباراتِها مغزاهُ وأهميّتَهُ، ومن هنا كانت حملةُ الاغتيالاتِ التي تعرّضَ لها ممثّلو "م.ت.ف" ونشطاؤها، والتي طالت القادةَ والكتّابَ والمفكّرينَ ورجالَ الإعلامِ وغيرَهم. لكنّ ذلكَ لمْ يَحُلْ دونَ استمرارِ الجهودِ الفلسطينيّةِ من أجلِ كسْبِ تعاطفِ وتأييدِ الرأيِ العامِّ الأوروبيّ إضافةً إلى إحداثِ التغييرِ المنشودِ في الدّولِ والهيئاتِ والمنظمّاتِ الإقليميّةِ، وهو ما ترسّخَ بشكلٍ واضحٍ مع ازديادِ أهميّةِ الدّورِ الذي يقومُ بهِ الاتّحادُ الأوروبيُّ بصفتِهِ واحدًا من أهمِّ المنظماتِ الدّوليةِ في العصرِ الحديث.

 

شهدَ الوجودُ الفلسطينيُّ الحديثُ في أوروبا مراحلَ مختلفةً، وكانت البداياتُ مع انتهاءِ الحربِ العالميةِ الثّانيةِ وقدومِ أعدادٍ من العمّالِ الفلسطينيّينَ الذين ساهموا في بناءِ الدّولِ الخارجةِ للتوِّ من الحربِ المدمِّرةِ، وخاصّةً ألمانيا الغربية. وبعد ذلكَ شهدت أوروبا توافدَ أعدادٍ كبيرةٍ من الطّلّابِ الفلسطينيّينَ، سواءً في دولِ أوروبا الغربيةِ أو في دولِ المعسكرِ الاشتراكيّ السابق. ومع اندلاعِ الحربِ الأهليّةِ في لبنانَ وما تعرّضَ لهُ شعبُنا هناكَ من المجازرِ والملاحقةِ كانت أوروبا الغربيةُ هدفًا لموجاتٍ متلاحقةٍ من طالبي اللّجوء السياسيّ والإنسانيِّ، وهو ما غيّرَ من طبيعةِ الوجودِ الفلسطينيِّ وخاصةً في ألمانيا والدّولِ الاسكندنافيّةِ، حيثُ أصبحَ الفلسطينيّونَ من سكّانِ المخيّماتِ في لبنانَ يشكّلونَ جزءًا حيويًّا من الوجودِ الفلسطينيِّ في تلكَ الدّول. واكتملت صورةُ هذا الوجودِ مؤخّرًا بوصولِ أعدادٍ هائلةٍ من ضحايا الحربِ في سوريا بعد كلِّ ما تعرّضت لهُ المخيّماتُ الفلسطينيّةُ هناكَ من تدميرٍ وقتلٍ عشوائيٍّ وتهجيرٍ مُمَنهجٍ.

 

يشكّلُ الوجودُ الفلسطينيُّ في أوروبا واحدًا من أكبرِ التجمّعاتِ خارجَ الوطنِ، وعندما نتحدثُ عن الفلسطينيّينَ في أوروبا فإنّنا نأخذُ في الحسبانِ زوالَ الحدودِ بينَ الدولِ الأعضاءِ في الاتّحادِ الأوروبيِّ ووحدةَ القوانينِ وما تكفلُهُ من حريّةِ انتقال الأفرادِ والأفكارِ وسهولةِ التّواصلِ وإمكانيّةِ الحصولِ على الدّعمِ والتّمويلِ للمشاريعِ والمؤسّساتِ التي تنشَطُ تحتَ سقفِ القانونِ وما يكفلهُ من حريّةِ التأطيرِ ضمنَ جمعياتٍ وهيئاتٍ تهتمُّ بالمحافظةِ على الثقافةِ والتراثِ والانتماءِ للوطنِ الأمِّ، مع ضرورةِ الاهتمامِ بالشّأنِ الداخليِّ للدولِ التي تؤمّنُ سبُلَ الحياةِ الآمنةِ والكريمةِ، بما في ذلكَ ممارسةُ النشاطِ السياسيِّ والنقابيِّ والاجتماعيِّ وعدمُ التقوقعِ وعزلِ الذاتِ عن المجتمعِ المحليّ. كلُّ هذا يجعلُ من مهمّةِ الاستفادةِ من الوجودِ الفلسطينيِّ المتزايدِ في أوروبا مسألةً محوريةً في السياسةِ الفلسطينيّةِ الهادفةِ من جهةٍ إلى الحفاظِ على الرّوابطِ التي تجمعُ بين الفلسطينيِّ ووطنِهِ وهمومِ شعبِهِ، والسّاعيةِ من جهةِ أخرى إلى الاستفادةِ من الوجودِ الفلسطينيِّ وزيادةِ تأثيرهِ في الحياةِ اليوميّةِ للدّولِ الأوروبيةِ المختلفةِ بما في ذلكَ التّأثيرُ في توجّهاتِ الرأيِ العامِّ ورفعُ مستوى الوعيِ بالقضيةِ الفلسطينيّةِ وممارسةُ الضغوطِ على مراكزِ القرارِ السياسيِّ لتطويرِ مواقفِها ولتقديمِ الدّعمِ لشعبِنا، خاصّةً في ظلِّ السياسةِ العدوانيّةِ التي تنتهجُها ضدَّنا إدارةُ ترامب وما توفّرهُ من دعمٍ مطلَقٍ لدولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ الإسرائيليِّ ولكلِّ ما تقومُ بهِ من جرائمَ تطالُ الإنسانَ والأرضَ والمقدّساتِ.

 

*هزيمةُ الفكرِ الصّهيونيِّ العنصريِّ في فلسطينَ تتطلّبُ بينَ أمورٍ أخرى طردَ هذا الفِكرِ من عُقولِ أصحابِ القرارِ السياسيِّ في أوروبا وترسيخَ عدالةِ قضيّتنا في الوعيِ الشعبيِّ والرّسميِّ الأوروبّيّ.

 

١٥-٩-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان