كنَّا في انتفاضة الحجارة الأولى عام 1987م، نُقارع قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي المُدجج في أعتى أنواع السلاح، في شوارع، وأزقة المخيمات، والقرى، وفي كل أحياء مكان، وكانت انتفاضة شعبية ضد الاحتلال، شارك فيها الغالبية العُظمي من جميع أبناء الشعب الفلسطيني، وكان بمجرد ارتقاء شهيد في قطاع غزة برصاص جيش الاحتلال الغاشم المجرم، ينتفض سُكان الضفة الغربية، والقدس عن بكرة أبيهِم، وحتى الفلسطينيين من سكان فلسطين المحتلة عام 1948م، يهبون نُصرةً، لأهلهم في غزة، وغضباً في وجه الاحتلال؛ وكذلك الحال لو ارتقى شهيد في الضفة تجد سكان قطاع غزة يهبون للدفاع عن أخوتهم ضد الاحتلال؛ وهكذا كنَّا نسيج اجتماعي واحد وموحد، ولم تكن ترتفع الرايات الفصائلية عن راية الوطن فلسطين. لقد كان هناك ترابطاً روحياً، وجسدياً عظيماً وقوياً ومتيناً، بين كافة أبناء الشعب الفلسطيني كالجسد والروح الواحدة، وكانت انتفاضة سلمية أّلمَتْ المُحتل ومرغت أنفه في التراب، حيث كنا شباباً صغاراً نلاحق جنود الاحتلال في أزقة وشوارع المخيم الضيقة، ونقذفهم بالحجارة وبالزجاجات الحارقة، وبالسكين والمقلاع والُّشّدِْيدّة، وكان يلحق بجنود الاحتلال الأذى، لأننا كُنا نختبئ ونحتمي بأزقة الشوارع الضيقة بالمخيم، ونهرب كراً، وفراً، وفي مقارعة متواصلة مع جيش الاحتلال، وكانت الحجارة تنهمر فوق رؤوس الجنود كالمطر المنهمر، وكان عدد الإصابات برصاص جنود الحي وعدد الشهداء طيلة انتفاضة الحجارة والتي استمرت أكثر من سبع سنوات تقريباً ارتقي خلالها قُّرابِةّ 1200 شهيد، وهو عدد أقل بكثير من عدد جرحي وشهداء عدوان الاحتلال والذي استمر خمسين يوماً عام 2014م فقط!. وعلي الرغم أننا أُصبنا برصاص الاحتلال أكثر من مرة في تلك الانتفاضة المجيدة إلا أننا بفضل الله عز وجل، لم نفقد طرفاً رجلاً أو يداً، وكنا نرجع لنقارع الاحتلال في كل مكان، وكذلك غالبية المصابين لم يكن فيهم إعاقات مُستدامة إلا ما نذّر؛ وليس مثلما يحدث اليوم في مسيرات العودة علي الحدود الشرقية لقطاع غزة!!؛ وبعد مُضي أكثر من ثلاثين عاماً علي انتفاضة الحجارة، وانقضاء عقود طويلة من الصراع المرير مع الاحتلال المُجرم، زادت عن سبعين عاماً، كان شبه إجماع، وتوافق وطني علي تفعيل المقاومة الشعبية السلمية ، وخاصة بعد ظهور مخطط للرئيس الأمريكي ترامب، "صفقة القرن"، وقرارهِ الجائر الإجرامي بنقل السفارة الأمريكية إلي مدينة القدس المحتلة؛ مما فجر هبة شعبية جديدة، عُرفت: "بمسيرات العودة الكُبرى"، وكانت الشرارة، والحشد الكبير لها في قطاع غزة يوم 30 مارس/آذار، وتزامن ذلك مع ذكرى يوم الأرض، فكان خروج ألاف من المواطنين من كل أماكن قطاع غزة للتظاهر سلمياً، فارتقي يومها عشرات الشهداء ومئات الجرحى، وبعد مضي عدة شهور علي تلك المسيرات؛ علينا أن نُقيم ما سبق، ولنتكلم بصراحة أكثر، هل حققنا ما نريد من عودة اللاجئين لأرضنا المحتلة عام 1948؟، والجواب حسب رأي بآن الثمن لتلك المسيرات السلمية كان مؤلماً وكبيراً، وباهظ جدًا، ارتقت أرواح مئات من الشهداء، وأُصيب الآلاف، بالرصاص وجُلهم إصابات خطيرة جدًا تسببت لهم بعاهات وإعاقات جسدية مستدامة، وبعض المصابين برصاص العدو فقد أطرافه السفلية، بسبب رصاص الاحتلال الإسرائيلي المجرم النازي!؛ وممَّا لا شك فيهِ لأكون منصفاً بأن هناك إنجازات بسيطة تحققت بسبب المسيرات السلمية، وأهمها أن مسيرات "العودة الكبرى أعادت فلسطين لكل المحافل الدولية، وأدت لإدانة جرائم الاحتلال على نطاق واسع بسبب استخدامه للقوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين، وكان في المسيرات نوع من الوحدة الوطنية، ورفع راية واحدة هي علم فلسطين، كما أعادت قضية فلسطين لمكانتها في صدارة اهتمام الشّعوب؛ وبّينتْ سلميّة المسيرات وطبيعتها الشّعبيّة وبساطة وعدالة مطالبها كحقّ مكفول دوليًا، ومُشرّوع إنسانيّا؛ وساهمت المسيرات في كشف جرائم ومجازر الاحتلال وسوءته؛ أمام العالم أجمع؛ ولكن الثمن لتلك المسيرات كان أكبر بكثير مما يعتقد البعض، فماذا جنينا منذ سبعين عاماً من قرارات الأمم المتحدة، وقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، ومن إدانة الاحتلال!، فلقد بقيت كُل تلك القرارات المتعلقة بفلسطين وإنهاء الاحتلال، وإدانة جرائمهِ حبراً علي ورق، بل لا تساوي ثمن الحبر الذي كُتب به!؛ وفي النهاية ما هي نتيجة مسيرات العودة علي شعبنا وقضيتنا الفلسطينية:

أولاً: النتيجة في النهاية تساوي "صفر، وأقل من الصفر، وأصبحنا نطالب بحل إنساني لقطاع غزة!.

ثانياً: حركة حماس أضحت تطالب بأسوأ من اتفاقية أوسلوا بكثير، فلقد كان في غزة مطار، وميناء، وكهرباء 24 ساعة متوفرة ووظائف وعمل، ولم يكن عدد شباب ضائع ومعاق بهذا الشكل الرهيب، والذي بعضهم لا يجد اليوم ثمن الدواء أو قوت يومهِ، وأضحت، والبطالة مستشرية، والوضع العام مؤلم ومُظلم!.

ثالثاً: خسرنا خيرة شباب غزة، والذين أصيبوا برصاص القنص الغادر، من قوات المحتل الغاشم، المُجرم، مما أدي إلي بّثر في أطرافهم، ولتلازمهم الإعاقة، والعاهات المستديمة للأبد.

رابعاً: يقول كثير من أهل فلسطين ويتساءلون: إذا كانت لدي حركة حماس القدرة على اللجوء للمقاومة المسلحة، فلماذا لا تفعل؟"، أم هي حركة قادرة على التلون والاختلاف؟، حسب المصلحة لقيادة حماس وليس حسب مصلحة الوطن أو الشعب؛ وحسب المصالح الحزبية لهم|.

خامساً: لم تعد قِّبلُتهُم تحرير القدس بل رفع الحصار، ولم يبقي شعارهم "هي لله"، ولن نعترف بإسرائيل! فهل دم الشهداء، والجرحى وأبناء الشعب الفلسطيني في غزة كان وقوداً لمصالهم؟. قادة وساسة حركة حماس يقولون: "قصف بقصف"، وتهدئة تقابلها تهدئة"، وغيرنا قواعد الاشتباك ونرد علي عدوان العدو بالمثل، وأقول فلا وجه للمقارنة، فصواريخنا ليست بقوة صواريخهم علي الإطلاق؛ وأسأل حركة حماس، وجناحها العسكري كتائب القسام: لماذا قبل عقدين من الزمن كانت حركة حماس تقوم بعمليات استشهادية من تفجيرات باصات في الداخل المحتل ، وأقل عملية منهم كانت تؤدي لمقتل أكثر من عشرين غاصباً، وبعضها إلي مقتل أربعين مستوطناً، وكانت تلك العمليات مؤثرة جدً وموجعه للاحتلال، وكانت عملية التفجير يقوم بها شاب فلسطين؛ واليوم نجد العكس، فنقول قصف من المقاومة للاحتلال رداً علي قصف العدو، وكذلك مسيرات العودة يقُتل منا الاحتلال أكثر من 250 شهيداً وآلاف من الجرحى والمعاقين، وردنا عليهم بغزة بماذا؟ بقتل جندي يهودي واحد فقط وإصابة أخر!؛ هل هذا منطق، أيها العقلاء، والله عز وجل يقول:"" إن اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ""؛ والشرط هنا أنهم يقتلون أولاً ثم يستشهدون؛ وليس مثل مسيرات العودة نحن فيها نذهب للموت بأرجلنا، ونكون في ساحة مكشوفة في مرمي نيرات العدو، كشواخص للقنص، كأننا بطّ يتدرب جنود الاحتلال فنون القنص والقتل علي شبابنا بلا أي ثمن، فيكون الشباب كشواخص رماية، ومثل بطٍ سمين يتم اصطيادهم برصاص الغدر والقتل الصهيوني. ويبقي المتضرر الأكبر منذ 12 عاماً هو الشعب الفلسطيني وخاصة في غزة، ينوحُ كالطير مذبوحاً من الألمٍ، من فقر، وبطالة، وجوع، ومخدرات، وبالطبع قيادة حماس فقط تتنعم في رغد العيش، والحكم الرشيد، ولا مصالحة تلوح بالأفق بل انفصال؛ وكذلك من المتضررين بالوضع الراهن موظفين حركة حماس، والذين يتقاضون راتباً شهرياً 40% ، مع العلم أنَّ حركة حماس تستطيع ممَّا تجبيه من أموال كبيرة، وكثيرة أن تقبض موظفيها وموظفي السلطة أيضاً راتباً كاملاً بنسبة 100%!؛ وفي نهاية المقال اعتقد وهذا رأي الخاص وقناعتي أن مسيرات العودة التي دعت لها حركة حماس كل جمعة عبر مكبرات الصوت من مساجد قطاع غزة، كان الهدف من ورائها ليس عودة للاجئين وليست هي لله، أو من أجل تحرير القدس الشريف، بل هي من أجل مصالح حزبية إخوانية خالصة، ومنها شعور حماس بأن الشعب كان سينفجر بسبب الحصار بوجهها فحولت الانفجار للاحتلال، ومن ثم تلك المسيرات هي لضمان استمرار حكمها للقطاع غزة!؛ ولتُجِبر الاحتلال للتفاوض معها وأنها هي من يملك القرار بغزة، فحماس تعتبر مسيرات العودة والتصعيد الأخير بالأمس، و"القصف بالقصف"، إنجازًا يجعلها معنية جدًا باستمرار الفعاليات الحدودية، من أجل الخروج من أزماتها الكثيرة في قطاع غزة.

سادساً، وأخيراً تسعى حركة حماس إلى حل أزماتها بعيدًا عن السلطة الفلسطينية من خلال مسيرات العودة، وعبر استمرار إطلاق البالونات الحارقة، من أجل أن تكون هي سيدة الموقف والجميع يتفاوض معها، ومازال سكان قطاع غزة يحلمون في غدٍ مشرق، أو أن تنشق الأرض فتبتلعهم من شدة ما هي فيه من فاقة وألم وحرمان، أو يهاجروا من الأرض الظالم حكامها وأمراؤها، لأن الشعب لا ريد أن يبقي رهينة في أيديهم، ورهين المحبسين، بين الاحتلال وجرائمه، وبين حركة حماس، التي حينما يستشهد أيٍ من قيادتها تأخذ الناس لحرب مدمرة لا تبقي ولا تذر ؛ فدماء هذا القائد منهم، ليست عند الله أغلي من دم أي مُواطنٍ شريف تقي نفي؛ ومن حق الشعب أن يعيش ويحيا بكرامة وحرية، ومن حق الشباب أن يعيشوا غدًا أفضل، وأن يكون مقابل استشهاد شاب من الاحتلال غدراً ، أن يكون الرد بالمثل، وقتل جندي مغتصب احتلالي، وأن لا نبقي نتفرج علي الاحتلال وهو يضربنا الكف علي الخد الأيمن، وننتظر اللطمة الأُخرى علي جانب الخد، إن لم نتوحد فنحن لا نستقي النصر ولا التحرير ولا رضاء رب العالمين عنا وسنبقي مَلْطّةَ ومضرب للجميع.