بقلم: صقر ابو فخر

ظهرت الصهيونية الحديثة في اوروبا الشرقية اولا، حيث كانت حمى العداء لليهود في اوجها، والدعوات الى ترحيلهم في ذروتها . وهذه الدعوات كانت تلقى أصداء قوية لدى اليهود أنفسهم ولدى جمعياتهم التكافلية ومنظماتهم السياسية، لان هذه الدعوات كانت تتلاءم مع التفكير الصهيوني الداعي الى ترحيل اليهود الى فلسطين واقامة وطن قومي لهم. غير ان الصهيونية العالمية شقت طريقها نحو اهدافها في سياق الارهاب، اي انها بدأت في روسيا كأحد ضحايا الارهاب، وانتهت في فلسطين الى ممارسة الارهاب بعينه. والحكاية على النحو التالي:
في الاول من آذار 1881 شاركة فتاة يهودية روسية في عملية اغتيال القيصر الكسندر الثاني الذي اشتهر عهده بتحرير العبيد وتجريم العبودية والرق البشري، وادخاله الاصلاحات المتعددة في النظام السياسي القيصري ، وتحديث القوانين ومناهج التعليم، وانشاء الطرق
والسكك الحديد في طول روسيا وعرضها .وفور وقوع محاولة الاغتيال ،بدأت حملة لتعقب اليهود وناشطيهم، ومطاردة الاعضاء اليهود في المجموعات السرية المعادية للحكم القيصري آنذاك.وقدمت هذه الحوادث معينا قويا للفكر الصهيوني الذي راح ينتشر بقوة في صفوف اليهود ، والذي كان يشدد على ان الشعوب الاوروبية تكره اليهود كرها دينيا باعتبارهم هم الذين صلبوا المسيح ،وكرها قوميا لان اليهود لايريدون الاندماج في المجتمعات الاوروبية . اما الحل فهو الرحيل الى فلسطين ،الامر الذي يخلص اوروبا من عبء المسألة اليهودية ،
ويمنح اليهود وطناً في الوقت نفسه. وفي سياق هذه الحوادث انبثقت بين اليهود جمعيات سرية لتهجير اليهود منها جمعية "بني موشي" (ابناء موسى)، ومنظمة "لوحوفيفي تسيون " (احباء صهيون)، وجمعية (Bilu) التي اتخذت من عبارة توراتية اسما لها وهي : "بيت يعقوب لخي فنيلخا" اي: "يابيت يعقوب هيا لنذهب". ولم تكد تنقضي خمس عشرة سنة  حتى تمكن اليهود من عقد مؤتمر بال في سويسرا سنة 1897 الذي اسس المنظمة الصهيونية العالمية ،ولم تكد تمضي عشرون سنة اخرى حتى كان للصهيونية وعد من بريطانية باعطائها وطنا قوميا في فلسطين (اعلان بلفور 1917)، ثم عشرون سنة أخرى وانتزع الصهيونيون قرار التقسيم من الامم المتحدة في 29/11/1947. وفي معمعان هذا المسار سالت دماء الفلسطينيين، وارتكبت المجازر في مدنهم وقراهم، واغتيل من اغتيل من نخبهم وقادتهم ومناضليهم.

الارهاب والعنف    
ثمة، بلا ريب، فارق جوهري، سياسي وقانوني وايديولجي، بين الارهاب والعنف. فالعنف، ولاسيما العنف الثوري، يمارسه الافراد وتلجأ اليه الشعوب لغايات نبيلة كالتحرر أو الثورة الاجتماعية . أما الإرهاب فهذه وسيلة غير أخلاقية لإرغام الخصم ، وهي وسيلة يلجأ اليها الافراد او الجماعات عندما يفتقرون الى الى وسيلة راقية لادارة الخلافات. فالهجوم على اشخاص يتمتعون بالحماية الدولية هو عمل من اعمال الارهاب مثل اغتيال الصهيونيين اللورد موين في القاهرة في 6/11/1944 كردة فعل على مقتل الارهابي الصهيوني أبراهام شتيرن في سنة 1942، وكذلك اغتيالهم الكونت فولك برنادوت في 16/9/1948 الذي سقط برصاص يهوشواع كوهين من منظمة ليحي الارهابية الصهيونية (لوحامي حيروت يسرائيل). أما أعمال الانتفاضة في فلسطين، أو المقاومة في جنوب لبنان فهي أعمال مشروعة يقوم بها وطنيون ضد احتلال غير مشروع؛ وهذا ما تقره القوانين والشرائع الدولية وقرارات الأمم المتحدة، فضلاً  عن أفكار المستنيرين والمفكرين الأحرار.
بيد أن ذاكرة الإعلام الغربي تبدو، في هذا الميدان، شديدة الإنحياز والانتقائية، فأعمال الفلسطينيين وحدها يجري الكلام عليها كعمليات إرهابية، بينما ما يقوم به الإسرائيليون فيجري تصويرها كعمليات دفاع عن النفس أو عمليات استباقية لإجهاض عمل إرهابي! فعملية اختطاف السفينة أكيلي لاورو في 7/10/1985 على غثاثتها لم تكن إلا ردة فعل على قصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس في 1/10/1985 ومحاولة اغتيال ياسر عرفات. وقد أثارت اسرائيل يومذاك عاصفة إعلامية ضد هذه العملية، وتناسى الاعلام الدولي عشرات عمليات خطف السفن التي نفذتها البحرية الإسرائيلية أمام الشاطئ اللبناني، فكانت تختطف السفن وطواقمها، ثم تسلِّم الجميع الى "القوات اللبنانية" التي كانت تقتل الطواقم وتستولي على السفن.

الغايات القريبة والبعيدة
الاغتيال في التاريخ الصهيوني الحديث لم يكن شأناً عابراً أو محدوداً، بل نهج سياسي كامل، ووسيلة استراتيجية للوصول الى الغايات المباشرة والأهداف البعيدة في الوقت نفسه. وقد اقترنت المجازر بعمليات الاغتيال اقتراناً وثيقاً حتى يمكن القول إن الاغتيال كان ذا طابع فردي، بينما المجازر كانت اغتيالاً جماعياً للفلسطينيين. أما الأهداف التي كانت الحركات الصهيونية كلها تكاد تتفق عليها فهي التالية:
• القضاء على أشخاص مؤثرين يعيقون السياسات الصهيونية.
• محاولة إفناء عقول الفلسطينيين وتحطيم قدرة التفكير لديهم.
• الانتقام
•إثبات القوة وتخويف الخصوم.
• منع العرب من امتلاك عناصر القوة (قتل علماء الصواريخ في مصر، انطلاقاً من مرتكزات التفكير الصهيوني في هذا المجال، مارست اسرائيل الاغتيالات والمذابح في الوقت نفسه: المذابح لطرد السكان ودب الرعب في الآخرين، والاغتيال لمنع تبلور اللاجئين المشتتين في هوية وطنية جديدة.وكان المفكرون الفلسطينيون والكُتّاب والمناضلون هم الاهداف المباشرة للإرهاب الصهيوني، وبالتحديد بعد نكبة 1948. فالاغتيال، في هذه الحال يؤدي دوراً مهماً في محاولة القضاء على مفكري الحركة الوطنية الفلسطينية وقادتهم. وعلى هذا المنوال اغتال الموساد كمال ناصر ونعيم خضر وغسان كنفاني  وباسل كبيسي (عراقي) ووائل زعيتر ومحمد بو دية (جزائري) وماجد أبو شرار وغيرهم، خاصة أن هؤلاء الكتاب والصحافيين والفنانين لم يكونوا مجرد مثقفين وكفى، بل كانوا مناضلين أيضاً في صفوف المنظمات المقاتلة في الوقت نفسه. ومع ذلك تمكنت النخب السياسية والفكرية الفلسطينية من تحويل الفلسطينيين اللاجئين من أفراد متذررين هنا وهناك تحت رحمة السلطات العربية والأونروا، الى شعب يطمح الى تحرير وطنه بالثورة المسلحة.
لنتذكر اغتيال العالم الكندي جيرالد بول، وهو من أفضل علماء القذائف في العالم، وصاحب فكرة "المدفع العملاق" الذي حاول العراق تصنيعه (طول سبطانته 148 متراً)، فقد اغتاله الموساد في بروكسيل سنة 1990 لمنع العراق من امتلاك هذا المدفع. وعلى غرار جيرالد بول قضى العالمان المصريان يحيى المشدّ وسميرة موسى في ظروف تشير الى أيادي الموساد. ولنتذكر أيضاً حريق ستريو "لو بورغاتوار" في الحازمية في لبنان الذي اندلع في أثناء تصوير فيلم "كلنا فدائيون" وذهب ضحيته المخرج غاري غارابيديان. واغتيل وائل زعيتر في روما في 9/1/1973 جراء علاقاته المهمة بالشعراء والأدباء الايطاليين والأوروبيين؛ فقد كان صديقاً للروائي الكبير ألبرتو مورافيا وجان جينيه ومكسيم رودنسون وغيرهم، وهذا ما كان يخيف القيادة الاسرائيلية أشد الخوف، أي التأثير في الرأي العام الأوروبي لمصلحة قضية فلسطين. وعلى هذا الغرار اغتالت اسرائيل غسان كنفاني في 8/7/1972 بعدما كان أصدر في 26/7/1969 مجلة "الهدف"، وحاولت اغتيال الدكتور أنيس صايغ في 19/7/1972 بعدما جعل من مركز الأبحاث الفلسطيني مختبراً للعقول الفلسطينية والعربية، واغتالت في ما بعد كمال ناصر في 10/4/1973 الذي كان أصدر العدد الأول في مجلة "فلسطين الثورة" في 28/6/1972، وباسل كبيسي في باريس في 6/4/1973، وقبله حاولت اغتيال بسام ابو شريف في 25/7/1972، وعلماء الصورايخ الألمان في مصر بين 1962 و1963، والوسيلة هي  هي دائما، أي الطرود الناسفة.

إرهاب اليهود ضد اليهود
أقدم جماعة إرهابية يهودية هي "حركة الورعاء" أو المخنجرين (Zelots) التي ظهرت في القرن الأول الميلادي. ولجأت هذه الجماعة الى العنف المفرط ضد اليهود المقصرين في تطبيق الشرائع، أو ضد ممثلي السلطة الرومانية. وأسس هذه الجماعة مثقف يهودي يدعى يهوذا الجليلي للاحتجاج على تجريد اليهود من امتيازاتهم التي منحها اياهم هيرودوس، واتخذوا من الخنجر وسيلة للارهاب. والاعتقاد الشائع ان اليهود لم يمارسوا الارهاب ضد ابناء جلدتهم اليهود، وهذا محض اعتقاد فاسد؛ ففي 30/6/1924 اغتالوا يسرائيل يعقوب دهّان بتهمة الخيانة، وهو شاعر وصحافي وسياسي، وكان يعمل على تأليف جبهة عربية – يهودية ضد الصهيونية وفي 25/11/1940 نسفوا الباخرة باتيريا وعليها مهاجرون يهود غير قانونيين، وفجروا الباخرة ستروما في ميناء اسطنبول في 24/2/1942 وعليها 700 مهاجر يهودي. وكان القصد احراج بريطانيا لأنها منعت هؤلاء من الوصول الى فلسطين. وفي 20/6/1948 أمر بن غوريون بأغراق الباخرة ألتالينا لأنها كانت تحمل أسلحة لجماعة ميناحم بيغن الخصم اللدود لدافيد بن غوريون. ولم يتورع الصهيونيون عن قتل اليهود في بغداد لحملهم على الهجرة الى اسرائيل؛ ففي 8/4/1950ا ألقوا قنبلة على مقهى البيضاء في شارع أبو نواس في بغداد، وأتبعوها بقنبلة ثانية انفجرت في الكنيس اليهودي في بغداد.
إن جرائم الاغتيالات والعمليات الارهابية الصهيونية لها سجل طويل جداً، والشهداء الذين سقطوا كثيرون جداً أيضاً أمثال كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وأبو حسن سلامة وزهير محسن وعاطف بسيسو ومنذر أبو غزالة ومحمد باسم التميمي (حمدي) ومحمد حسن إبحيص (أبو حسن) ومروان كيالي وأبو جهاد (خليل الوزير) وجهاد جبريل وغيرهم. والغاية هي نفسها دائماً: تحطيم قدرة التخطيط للمستقبل لدى الفلسطينيين، ومحو النخب المفكرة القادرة على منح الأمل لشعبها، وإماتة روح الصمود لديهم.