بقلم: محمد سرور

هناك ربط وثيق بين واقع النظام العربي وطبيعة العلاقة التي تربط ما بين إسرائيل والغرب عمومًا. ذلك الربط الآلي- المبني على الأحكام المسبقة تجاه طبيعة النظام العربي المهترىء وغير القادر على التجدّد بحلة حداثية- تتناسب مع طبيعة النظام في غالبية دول العالم.
هذه النظرة يتمخض عنها موقف غير عادل تجاه القضية الفلسطينية كونها تقارن وبشكل مباشر بين هذه الأنظمة والنظام الصهيوني في فلسطين المحتلة، مما يفتح لسلطات الإحتلال النافذة الواسعة لممارسة عدوانه على الشعب والأرض وبالتالي التنكر للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وخاصة عندما يعمّم إعلام العدو أداء جيشه المحتل بمواجهة المقاومة الفلسطينية بشقيها العسكري والمدني مقابل ممارسات دول وأنظمة حكم بمواجهة شعوبها والمناهضين لحكمها.
في العالم السياسي: النظام الذي يحتاج إلى رعاية وحماية دائمة لا يمكن أن يكون شريكًا للدولة الراعية أو الحامية ولا ندًّا للمنافسة الإقليمية او غريمًا صلبًا للدول التي يقع على تماسٍّ دائم معها، بل يكون  ضعيفًا وتابعًا... وخاضعًا لمتطلبات المصالح الحيوية التي تحدّدها إستراتيجيات الدولة القوية.
الخضوع يعني القبول بالشروط التي تتجاوز مصالحه لصالح الدولة وليّة الأمر، كإنشاء القواعد العسكرية وتوقيع صفقات السلاح ذات المستويين: - القديم الذي يتطلب سوقًا لتصريفه. – والحديث الذي يمثل المخزون الحقيقي لجيش الدولة- وليّة الأمر. وذلك يتعلّق أيضًا بكلفة القواعد العسكرية المقامة على أرض الدولة الضعيفة.
إضافة إلى ما سبق، فإن شروطًا اخرى إقتصادية- كالعقود الخاصة بالشركات الصناعية والخدماتية للدولة- وليّة الأمر وتصدير السلع والمنتجات دون قيد أو شرط.
نضيف إلى ما سبق، مشكلة العديد من دول النظام العربي في العجز عن التطوّر المؤسساتي للسلطة القائمة، بحيث أصبحت العلاقة الثنائية بين الدولة العربية وأية دولة كبرى أو نامية عاجزة عن القيام بدور متوازن على قاعدة الإحترام المتبادل الذي يبعدها عن تجاذبات وصراعات المعسكرات الدولية.
هنا تقع أزمة العديد من دول النظام العربي في خارطة العلاقات الدولية، فالنظام المنخور بالفساد والحاكم خارج الأطر الدستورية والشرعية لا يمكنه تقديم نفسه للآخر بطريقة مسموعة وقائمة على الثقة المتبادلة مع دول أخرى عريقة في أدائها الدستوري- المؤسساتي والديمقراطي. ولا يمكن لهذا النظام حمل القضايا الهامة التي تخصّه بطريقة تلزم الآخرين على تبنّيها وعلى التزام مقتضياتها أيضًا- حتى لو توافقت مع أصول القوانين الدولية.
حتى أن القوى الأخرى التي تحاول وراثة هذا النظام- في أكثر من منطقة وقطر عربي، لا يمكنها أن تكون اكثر من ميليشيا مسلحة تقود أفرادًا لا شك في قدراتهم القتالية، لكنهم لا علاقة لهم بالثقافة المؤسساتية والديمقراطية والمكاشفة والشفافية، بل على العكس فهم يعادون هذه الثقافة ويعتبرونها دخيلة على النمط الثقافي والاجتماعي العربي، وبالتالي فإن نموذجهم خاص ويتعلق بطبقة من المحظيين وذوي النفوذ في الإطار الذي ينتمون إليه. حتى أنهم يمارسون سلطاتهم تحت عناوين دينية يدَّعون أنها تمثل الشريعة الإسلامية وقفًا لرؤيتها ودستورها الخاصين بها.
هذه القوى استحضرت نظام الإستبداد مطوّرًا بأساليب قمع ودمارٍ غير معهودين في العصر الحديث. فالصهيونية مثلا احتلت فلسطين وصادرت كل ما يملكه شعبها كماهو، بحيث أنها لم تدمّر إلا ما يفيض عن حاجتها الإستراتيجية. فيما الإرهابيون الجدد يخدعون حتى عناوين سياساتهم واسماء حركاتهم، لأنهم يدركون عدم بقائهم بفعل تطوّر عدوانيتهم وازدياد أعادؤهم. لذلك نراهم يتصرّفون وفق مقولة: من بعدي الطوفان.
هناك معسكرات جديدة قيد التشكل في العالم، كمنظومة شرق آسيا التي يقودها كل من الصين وروسيا، والتي بدأت بضم دول نامية وأخرى على طريق النمو، وهو ما يشغل الولايات المتحدة في الظروف الراهنة أكثر من رعايتها دوّامة الأزمات العربية المدمّرة والتي حسب تقدير أكثر من مسؤول اميركي تحتاج إلى ما بين 10 إلى 20 سنة من الحروب المستمرة كي تتوقف. أين العربُ منها ومن قراءتها الموضوعية التي تصوّب بعض مسارات تاريخنا؟ أين هم من مسافة تكتيكية أو محاولة عمليَّة لنزع فتيل الخداع الأميركي المزمن من خاصرتهم الرخوة؟
علينا أن لا نحيد نظرنا عن السياسة الأميركية الثابتة تجاه الكيان الصهيوني، فوزير الدفاع الأميركي التأكيد من تل أبيب على مركزية إسرائيل في خارطة المصالح الأميركية في المنطقة، متجاوزًا مسألة الخلافات السياسية بين إدراته وحكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة. الوزير الأميركي في حكومة أوباما بتأكيده على مكانة إسرائيل فهو يؤكد على ما هو أبعد وأعمق من الطمأنة، إلى الرعاية واستمرار المظلة السياسية- الأمنية والقانونية بوجه العالم والقانون الدولي.
بالطبع وجه العالم ما قبل الإتفاق الدولي مع إيران لن يبقى كما بعده. والدعوات الإسرائيلية المتكررة حول التحالف مع دول عربية كحلف مشترك بوجه إيران والتطرف الإرهابي إنما هو دليل رغبة قوية بدور قيادي يشكّل صورة المنطقة وفق النموذج الذي تطمح إليه حكومة نتنياهو والذي يذهب باتجاه رسم الخريطة الجيوسياسية بما يتطابق والمصالح الإسرائيلية بدقة متناهية والتي في الصميم منها جعل القضية الفلسطينية في أسفل قائمة اهتمامات دول المنطقة والعالم.
 إضافة إلى ذلك لا تخفي حكومة إسرائيل نيتها في الحديث مع كل من الكونغرس والحكومة الأميركية بشأن الحصول على اعترافهما بأهميّة مرتفعات الجولان السورية  والأغوار الفلسطينية لأهمّيتهما الإستراتيجية بالنسبة "للأمن العالمي" وبالتالي ضرورة ضمّهما للكيان الصهيوني، مع تشديد على مسألة سهولة ضم مرتفعات الجولان نظرًا لكونها شبه خالية من السكان حيث يقيم فيها حوالي 30 ألف سوري- من الطائفة الدرزية الذين من مصلحتهم الإنضمام إلى "دولة إسرائيل" حسب تصريحات مسؤولين إسرائيليين، يقابلهم 35 ألف مستوطن يهودي، وبالتالي فإن التفوّق العددي للمستوطنين في الجولان هو من يحسم مسألة هويتها.
يحسم القادة الإسرائيليون مسألة عدم عودة الخارطة السورية إلى ما كانت عليه سابقًا، كما يحسمون مسألة استمرار الصراع الداخلي بين الجماعات المعارضة للنظام، وبناءً عليه فإن على إسرائيل انتهاز اللحظة التاريخية التي تضمن احتفاظها بمرتفعات الجولات التي لا يوازي أهميتها الإستراتيجية أي مكان آخر. وبذات الوقت تضمن إسرائيل مسألة القدرة على الدفاع عن نفسها في وجه أي جماعة تحاول المساس بأمنها.
عندما نقرأ موقف رئيس الحكومة الإسرائيلية من الإتفاق الدولي حول الملف النووي الإيراني نستطيع أن نستنتج معنى التصعيد الذي يمارسه نتنياهو للحصول على أثمان مباشرة وأخرى غير مباشرة كنوع من جوائز الترضية والتطمينفي آن واحد. فحين يكون من أهداف التصعيد الإسرائيلي بوجه الإتفاق طمس القضية الفلسطينية وإبعادها عن الواجهة الدولية بصفتها القضية الأكثر أهميَّة، فإنه لا يتفرَّد بالملف الفلسطيني فقط، بل ويقرِّر مصير الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة تحت ذريعة الأمن الإسرائيلي والدولي، كونه يربط بين أمن إسرائيل والأمن في العالم الذي تشكّل إسرائيل واجهة حمايته نظرًا لموقعها في الدائرة الأكثر سخونة، ولأن إسرائيل- حسب المنظرين الصهاينة- تدفع فاتورة الكراهية التي يكنّها العرب والمسلمون للغرب بشكل عام.
رئيس حكومة دولة الإحتلال لا يكتفي بمعارضة الإتفاق حول الملف النووي الإيراني بإثارة الرعب على مصير إسرائيل من امتلاك طهران للقنبلة النووية فحسب، بل يذهب إلى محاولة التأثير العميق على الكونغرس الأميركي ومراكز القوى التي تستطيع إنتاج الرئيس القادم للولايات المتحدة إضافة إلى الأكثرية الدستورية.
 رئيس الحكومة الإسرائيلي المشاغب يتجاوز مسألة التجييش ضد الرئيس الأميركي إلى الظهور بصفة الداعية التي تحمل همّا كونيّا في مواجهة التطرف الإسلامي الهادف إلى تدمير الغرب والعالم الحر. وهو بذلك يحاكي مشاعر القوى العنصرية الغربية المناهضة والمعادية للعرب والمسلمين، ويجعل من إسرائيل القاعدة المركزية الأكثر تأثيرًا في ضياغة الموقف الغربي من خلال إنتاج إدارة أميركية- رئاسة وبرلمانًا- تتبنى رؤيته الإستراتيجية وتفرضها على العالم الغربي، رغم الصورة السوداء التي يرى الغرب من خلالها نتنياهو وحكومته المتطرفة. ورغم ذلك كله: سوف تبقى إسرائيل وعلى امتداد الزمن المنظور الحليف الأقوى للولايات المتحدة الأميركية ... دون منازع، نظرًا لغياب الدولة التي تستطيع سدَّ الفراغ الإستراتيجي في المنطقة.
النظام الصهيوني يعمل على استغلال اللحظة التاريخية- التي تمثل الكارثة للأمة العربية كلها. فلا نهضة ولا قيامة قريبة للواقع العربي المأزوم والمثقل بحروب لا نهاية قريبة لها، وهي من الحروب الأخطر كونها تقدّس القتل كفعل واجب، وكونها لا ترى فيه أكثر متنفس لأحقادٍ متوارثة ومزعومة الحق والواجب معًا.
الخوف على فلسطين الآن اكثر من أي وقت مضى... لأن الفلسطيني وحيدًا الآن اكثر من أي ظرفٍ مضى. وإلى أن تنتهي الكارثة بما حملت وحُمّلت سوف يكون الندم حالة عابرة لقداساتٍ مختلفة كتلك التي تبحث حركة حماس عنها كثمن للبقاء... ليس أكثر.