المصدر: ترجمة نسرين ناضر جوزف باحوط

لعل النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني هو الأطول بين كل النزاعات المعاصرة، والأشد مقاومة لكل محاولات التسوية. بدأ هذا النزاع الذي يعود إلى أكثر من قرن، قبل الحرب العالمية الأولى، وقد أرخى بثقله على العلاقات الدولية على نحوٍ محموم وخطر مرات عدّة بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة. ولا يزال حتى يومنا هذا شوكة في خاصرة الحياة الديبلوماسية الدولية.

جُرِّبَت كل الصيغ الديبلوماسية، من المباحثات الثنائية العلنية من طريق الوساطة مروراً بالمفاوضات السرّية المباشرة بين الطرفَين، وصولاً إلى المؤتمرات المتعدّدة الطرف بمساهمة قوية من الأمم المتحدة. لقد صدر أكثر من 12 قراراً دولياً تؤمّن إطار العمل القانوني للتوصّل إلى حل. وطُرِحَت قائمة شاملة بأفكار مبتكرة من أجل التوصّل إلى حلول لمعادلة باتت أكثر تعقيداً من أي وقت آخر - وتزداد تشابكاً مع مرور الوقت.

يُقرّ الاختصاصيون والخبراء في ما بات يُعرَف بـ"بيزنس عملية السلام"، بأنهم باتوا يعلمون ما المطلوب لإنهاء النزاع: حق الشعبَين اليهودي والفلسطيني في العيش بكرامة وأمن جنباً إلى جنب في دولتَين؛ اتفاق الأرض مقابل السلام الذي يتطلّب مفاوضات خلاّقة قائمة على المقايضة من أجل معالجة المعضلة الشائكة التي تطرحها مسألة الأرض والمساحة؛ والتعويض والاعتراف المتبادل.

في حين أن الخطوط العريضة لحلٍّ مُرضٍ وواقعي ودائم واضحة، ما ينقص هو تحلّي الطرفَين بإرادة سياسية حقيقية للانخراط بقوة من أجل التوصل سريعاً إلى اتفاق، والتمتّع بالخصال القيادية المطلوبة، ودفع الثمن اللازم من أجل بلوغ الحل وتطبيقه.

في هذا السياق من الجمود الشديد، حيث يمكن أن يؤدّي أي تراجع إضافي إلى إشعال نيران جديدة في الشرق الأوسط، اقترحت فرنسا - وهي شريك مهم إنما هامشي حتى الآن في "صناعة السلام" الدائم - مبادرة جريئة تهدف إلى إنهاء المأزق وتسريع وتيرة التقدّم نحو الحل المعترف به.

وقد نشرت إحدى الصحف الفرنسية، في 20 أيار [الماضي]، نص مشروع قرار تقدّمت به فرنسا إلى مجلس الأمن الدولي، وتقترح بموجبه الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ونهائية. يُحدّد مشروع القرار مهلة 18 شهراً للتوصّل إلى تسوية من طريق التفاوض، تقوم على إنشاء دولة فلسطينية بالاستناد إلى حدود 1967، مع المقايضات اللازمة في الأراضي، وعلى الاعتراف بالقدس العاصمة المشتركة للدولتَين. وتقترح الخطة الفرنسية أيضاً عقد مؤتمر دولي للسلام من شأنه أن يمنح مظلة للعملية المذكورة قبل انطلاقتها.

تحاول فرنسا أن تقلب اللعبة بكاملها، وأن تضع النتيجة قبل العملية في ذاتها. يستخدم الديبلوماسيون الفرنسيون تقنيات تفاوضية كلاسيكية، واضعين الأفرقاء تحت ضغط الوقت عبر فرض مهلةٍ لإتمام عملية يمكن أن تطول وتطول مع ما يرافقها من مشاحنات لا تنتهي فصولاً.

تسعى باريس إلى كسر دورة المفاوضات المباشرة غير الناجحة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فضلاً عن إبعاد الوسيط الأميركي المنهك والذي جفّت أفكاره من المعادلة. وتسعى أيضاً إلى وضع الكرة في ملعب مجلس الأمن الدولي أملاً بأن يساهم "السلام الذي يُفرَض فرضاً" في تغيير قواعد اللعبة.

غالب الظن أن بلداناً أوروبية أخرى، مثل المملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، سوف تحذو حذو فرنسا، الأمر الذي من شأنه أن يولّد زخماً دولياً جديداً. لكن يبدو أن الولايات المتحدة لم تنضم بعد إلى الركب.

يشار إلى أن فرنسا قدّمت مشروع قانون مماثلاً إلى مجلس الأمن الدولي في كانون الأول الماضي، وقد لقي معارضةً من الولايات المتحدة التي اعتبرت أن التوقيت سيئ لأنه جاء مباشرةً قبل الانتخابات الإسرائيلية.

من المفهوم أن الولايات المتحدة قد تكون متردّدة في قبول الاقتراح الفرنسي: فمن خلال هذه الخطوة، يبدو أن فرنسا تجرّد الولايات المتحدة من الدور الذي لطالما لعبته في موقع الوسيط الأساسي في النزاع. بيد أن باريس تدرك أن الموافقة الأميركية أكثر من ضرورية. وهي تسعى إلى تزويد الديبلوماسية الأميركية المنهَكة بأداة لتوزيع المهمات: من شأن الآلية المقترحة أن تساعد الوسيط الأميركي على إقناع إسرائيل باتخاذ خطوة جريئة نحو السلام الشامل، في حين أنه بإمكان أوروبا أن تعمل على إقناع الجانب الفلسطيني ليقوم بالشيء نفسه.

وتأتي المبادرة أيضاً في وقتٍ تحرص فيه واشنطن، التي تسعى جاهدةً للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، على طمأنة إسرائيل بشأن أمنها. يعتبر الديبلوماسيون الأميركيون أن الخطوة الفرنسية تشكّل عامل خوف إضافياً وغير ضروري يُضاف إلى مخاوف الحكومة الإسرائيلية التي تعاني أصلاً من البارانويا. لكن قد تكون فرنسا متنبّهة جيداً لهذا الخطر: فهي تحاول ربما تحويل انتباه العالم عن النزاعات الراهنة مع إيران والخليج وتنظيم "الدولة الإسلامية"، مستخدمةً مبادرتها الفلسطينية للفت الأنظار من جديد نحو نزاعٍ لا يزال كثرٌ يعتبرونه مصدر كل النزاعات الأخرى.

*باحث زائر في برنامج الشرق الأوسط في مركز كارنيغي للسلام الدولي