الانتخاباتُ ليست مرسومًا رئاسيًّا تستعجِلُ "حماس" إصدارَهُ بعدَ أنْ انقلبت على السُّلطةِ الشّرعيّةِ وعطّلت أهمَّ دعائمِ الحياةِ الديمقراطيّةِ وهو التّداولُ السلميُّ والدّوريُّ للسُلطة. والمهزلةُ الكبرى أنَّ مَنْ وقفَ لسنواتٍ طويلةٍ حجرَ عثرةٍ في طريقِ الوحدةِ متمترسًا خلفَ الانقسامِ ومحتجِزًا أهلَنا في غزّةَ كرهائنَ يقايضُ أرواحَهم بتثبيتِ سلطتهِ يتظاهرُ الآنَ بحرصِهِ على إنفاذِ القانونِ ويعبّرُ عن "نفاذِ صبرِهِ" لأنَّ الرّئيسَ لمْ يُصدِرْ بعدُ المرسومَ العتيدَ. هذا هو التحايلُ الفجُّ على الحقيقةِ أو الجهلُ بها، لأنَّ الانتخاباتِ التي يصرُّ الرّئيسُ على إجرائها هي سلاحُ شعبِنا الذي يضمنُ إحداثَ اختراقٍ على جبهتينِ متلازمتَيْنِ، الأولى هي جبهةُ الانقسامِ الناتجِ عن انقلابِ "حماس"، والثانيةُ هي الإصرارُ على أنْ تبقى القدسُ المحتلّةُ ضمنَ دائرةِ العمليةِ الديمقراطيّةِ التي تشملُ أيضًا الضّفةَ الفلسطينيّةَ وغزّة. وإذا أضفنا إلى هذينِ الهدفينِ ضرورةَ تجديدِ شرعيّةِ المؤسّساتِ الوطنيّةِ، فإنَّ بإمكانِنا الحديثَ عن الانتخاباتٍ كخطوةٍ نوعيّةٍ على طريقِ تعزيزِ الصّمودِ الفلسطينيِّ في وجهِ المخطّطِ الأمريكيِّ-الإسرائيليِّ بكلِّ ما يحتويهِ من خطرٍ يهدّدُ المشروعَ الوطنيَّ الفلسطينيَّ ويكرّسُ دعائمَ الاحتلالِ الاستيطاني الاستعماريّ. أمّا التعاملُ مع الانتخاباتِ كفرصةٍ لتحقيقِ مكاسبَ حزبيّةٍ أو فئويّةٍ حتى لو كانَ ذلكَ على حسابِ مكانةِ القُدسِ في صميمِ مشروعِنا الوطنيِّ فهذا ما لا يمكنُ أنْ يقبلَ بهِ شعبُنا ولنْ يغفرَ لأحدٍ جريمةَ القبولِ بهِ.

 

عودةُ اللحمةِ إلى شقّي الوطنِ وطيُّ صفحةِ الانقسامِ والانقلابِ هو الهدفُ الأكثرُ إلحاحًا ضمنَ أولويّاتِ إعادةِ صياغةِ أدواتِ العملِ الوطنيِّ واستنهاضِ طاقاتِ شعبِنا ليصبحَ بإمكانِهِ التفرّغُ لمقارعةِ الاحتلالِ والاستيطانِ بدلاً من إهدارِ هذه الطّاقاتِ في معالجةِ آثارِ الانقسامِ، فقد تكبّدَت قضيَّتُنا خسائرَ باهظةً كثمنٍ لهذهِ الآثارِ وأُهدِرَ كثيرٌ من الجُهدِ والوقتِ في دوّامةِ البحثِ عن وسيلةٍ تعيدُ الوحدةَ الوطنيّةَ. هكذا نفهمُ دورَ الانتخاباتِ التي يصرُّ الرئيسُ على إجرائها، وهو إصرارٌ أدّى في النهايةِ إلى تجريدِ "حماس" من مبرّراتِ التّهرّبِ منها والمماطلةِ والتملّصِ من هذا الاستحقاقِ الوطنيِّ وأجبرَها أخيرًا على الانصياع ولو على مَضضٍ وبشكلٍ ما زالَ يسودهُ الإبهامُ لإرادةِ الشّعبِ ولمصلحةِ الوطن. 

 

الإصرارُ على إجراءِ الانتخاباتِ في القُدسِ المحتلّةِ هو المعيارُ الحقيقيُّ لفهمِ الدّورِ المنوطِ بها في هذهِ المرحلةِ المفصليّةِ من تاريخِ شعبِنا. فالقدسُ هي عنوانُ المواجهةِ وجبهتُها الأولى، وقد سعت إدارةُ ترامب إلى إخراجِ العاصمةِ الفلسطينيّةِ من دائرةِ الصّراعِ وتكريسِ السّيادةِ الإسرائيليةِ عليها بشكلٍ يتناقضُ مع الحقِّ الفلسطينيِّ ومع الشرعيةِ الدّوليةِ بشكلٍ فاضحٍ. نعلمُ جيّدًا كيف يحاولُ الاحتلالُ الاستيطانيُّ استغلالَ المظلّةِ الأمريكيّةِ ويصعّدُ هجمتَهُ لمحاربةِ مظاهرِ الوجودِ الوطنيِّ الفلسطينيِّ كافّةً في المدينةِ المقدّسةِ. أمامَ هذا الخطرِ الأمريكيِّ-الإسرائيليِّ يصرُّ الرئيسُ أبو مازنَ على أنَّ حقَّ إجراءِ الانتخاباتِ في القدسِ يرقى إلى الواجبِ الوطنيِّ، وهذا الإصرارُ هو إحدى وسائلِ تكريسِ الحقِّ الفلسطينيِّ وتأكيدِ وحدةِ الأرضِ الفلسطينيةِ التي لا تكتملُ إلّا بالقدس. وعلى من يتباكى الآنَ على المرسومِ الرئاسيِّ أنْ يتركَ عقليةَ تسجيلِ المواقفِ جانبًا وأنْ يتّخذَ ولوْ مرةً واحدةً موقفًا مسؤولاً يؤازرُ مطالبةَ القيادةِ الفلسطينيّةِ بضرورةِ ممارسةِ المَقْدسيّين لحقّهم الانتخابيِّ، فالقدسُ لا تحتملُ مثلَ هذا العبث!

 

*بصراحةٍ ودونَ موارَبةٍ: من يطالبُ الرئيسَ بإصدارِ مرسومِ تحديدِ موعدِ الانتخاباتِ قبلَ الحصولِ على ضماناتِ إجرائها في القُدسِ إنّما يدعو عمليًّا إلى التخلّي عن حقِّ شعبِنا التّاريخيِّ في عاصمةِ دولتِهِ المحتلّةِ ويسلّمُ بالسيادةِ الإسرائيليّةِ عليها.

 

١٩-١٢-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان