يعتبرُ مصطلحُ "حقبة ما بعدَ الحقيقةِ" من المصطلحاتِ الحديثةِ نسبيًّا، ويُجمِعُ المختصّونَ بعلومِ الاجتماعِ والسياسةِ أنَّ أوّلَ استخدامٍ لهُ كان في مقالٍ نُشرَ عام ١٩٩٢ وكانَ مخصّصًا لفضيحةِ إيران-كونترا المشهورة، حيثُ قالَ كاتبُ المقالِ: يبدو أنّنا كشعوبٍ حرّةٍ قد قرّرنا أن نعيش في "حقبةِ ما بعدَ الحقيقة"، وذلكَ في إشارةٍ منهُ إلى الأكاذيبِ التي تمَّ استخدامُها للتّغطيةِ على تلكَ الفضيحةِ، وللتذكيرِ فقط فإنَّ فضيحة إيران-كونترا قد انفجرت عامَي ١٩٨٦-١٩٨٧ وتتعلّقُ بقيام إدارةِ ريغان ببيع أسلحةٍ إلى إيران خلال الحرب العراقيةِ-الإيرانيّةِ مقابلَ الإفراجِ عن رهائنَ أمريكيين كانوا محتجزين لدى "حزب الله" في لبنان، وتمَّ تخصيصُ وارداتِ بيعِ الأسلحةِ لمساعدة المعارضة المسلحةِ في نيكاراغوا، وهي المعارضةُ التي كانت تحمل اسم كونترا Contras. بالعودة إلى مصطلح "حقبة ما بعد الحقيقة" فهو تعبيرٌ عن حالةٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ جديدةٍ لم تعُدْ للحقيقةِ فيها أهميّةٌ تُذكَرُ، وأصبحَ تجاهُلُها والقفزُ عنها سلوكًا عاديًّا يحظى بالقبولِ، وتمَّت الاستعاضةُ عنها باللجوءِ إلى الكذبِ واللعبِ على وترِ العواطفِ والغرائزِ والمصالحِ الشخصيّة. وقد ساهمَ الاستخدامُ المتزايدُ لوسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ في تعزيزِ النزعةِ نحو الخطابِ الشّعبويِّ بعيدًا عن توخّي الحقيقةِ أو إسنادِ الرّأي بما يلزمُ من الأدلّةِ والبراهين.

 

لقد سهّلت منصّاتُ التواصلِ الاجتماعيِّ مهمّةِ الإعلاميّينَ والسياسيّينَ والأشخاصِ العاديّينَ في نشرِ أفكارِهم والتّرويجِ لها، وكانت ذروةُ استخدامِ هذه المنصّاتِ كأدواتٍ للتلاعبِ بالرأيِ العامِّ في الفترةِ التي رافقت حملةَ الاستفتاءِ بشأنِ خروج بريطانيا من الاتحادِ الأوروبيِّ في حزيران ٢٠١٦، ثُمَّ الحملةَ الانتخابيّةَ للرئاسةِ الأمريكيّةِ التي تميّزت باستخدامِ الكذبِ والتضليلِ من قِبَلِ طاقمِ حملةِ ترامب. ولعلَّ أهمَّ ما يميّزُ منصاتِ التواصلِ هي القدرةُ على المحافظةِ على السرّيةِ والاختباءِ خلفَ أسماءٍ وهميةٍ تعفي صاحبَها من رذيلةِ الشعورِ بالخجلِ إذا تمَّ كشفُ كذبِه، وهذا بدورِهِ يعزّزُ القناعةَ بأنّ الكذبَ في حدِّ ذاتِهِ لم يعدْ خطيئةً لا يغفرُها الرأيُ العامُّ وأصبحَ مسألةً نسبيّةً يمكنُ للجمهورِ السّكوتُ عليها إذا أدّت إلى تحقيقِ الهدفِ الذي يسعى إلى تحقيقِهِ من يلجأُ إلى الكذبِ عندما يكونُ هذا الهدفُ متماشيًا مع مصالحِ الجمهورِ ومتوافقًا مع قناعاتِهِ ومعتقداتِهِ، أو هكذا يوحي إليه من يسعونَ لكسبِ ودّهِ بأكاذيبهم. ويتفقُ علماءُ النّفسِ أنَّ أغلبيةَ مستخدمي وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيِّ لا تسعى إلى البحثِ عن الحقيقةِ أو تعميمِها، وإنّما تريدُ سماعَ صدى صوتِها ولا ترى سوى انعكاسِ صورةِ وجهِها في مرايا من يوافقونَها الرّأيَ، وهذا ممّا يزيدُ من خطورةِ الوقوعِ في فخِّ الاستقطابِ الحادِّ والعزوفِ عن الإنصاتِ إلى كلِّ ما يخالفُ رأيَها ويتعارضُ مع معتقداتِها.

 

لا بدَّ من التأكيدِ على أنَّ نجاحَ سياسةِ الكذبِ والقفزِ عن الحقيقةِ يحتاجُ أوّلاً إلى توفيرِ الأرضيّةِ الملائمةِ لكي يصبحَ القارئُ أو المتلقّي مستعدًّا لتقبّلها وخاضعًا لتأثيرِ مروّجيها. ومن أجلِ ذلكَ يجري تحطيمُ منظومةِ القِيَمِ العامّةِ وتشويهُ الشخصيّاتِ والمؤسساتِ التي تشكّلُ "قدوةً" أو مرجعيّةً تحظى بالاحترامِ والثقةِ، وهذا ما نستطيعُ ملاحظتَهُ في كلِّ المحطّاتِ المفصليّةِ التي تمرُّ بها المسيرةُ الوطنيّةُ الفلسطينيّةُ دون انقطاعٍ، ولا حاجةَ بنا إلى سردِ الأمثلةِ على محاولاتِ التشويهِ واختلاقِ الأخبارِ الوهميةِ والتّركيزِ على شخصيّاتٍ محدّدةٍ لتكونَ محورَ الهجومِ وهدفَ حملاتِ الأكاذيبِ والشّائعاتِ. ولأنَّ مختلقي الشائعاتِ مجهولون أو على الأغلبِ وهميّونَ بحُكمِ طبيعةِ وسائل التّواصلِ فإنّهم يظلّونَ خارجَ نطاقِ المساءلةِ، وهذا ما يشجّعهُم على الاستمرارِ في ممارسةِ حرفةِ الكذبِ واستقطابِ المؤيدينَ لهم. ولعلّ أخطرَ نتائجِ "حقبةِ ما بعد الحقيقةِ" هي حالةُ الاستقطابِ الحادِّ وتمترُسُ كلِّ ذي رأيٍ خلفَ رأيِهِ وعدمُ قابليةِ الفرقاءِ لتقبّلِ ما يتعارضُ مع معتقداتِهم وآرائهم. 

 

*حقبةُ ما بعدَ الحقيقةِ هي النتاجُ المباشرُ لثورةِ الاتصالاتِ وما تضمنهُ من سرعةِ وسهولةِ الوصولِ إلى المتلقّي والتأثيرِ على قناعاتِه، وما يرافقُ ذلكَ من سهولةِ انتحالِ شخصيةٍ وهميّةٍ يتمُّ التستّرُ خلفَها لتعميمِ ثقافةِ الكذبِ والتضليلِ. 

 

٢٤-١٠-٢٠١٩

 رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان