يستطيع كلُّ باحث عن كيفية تجلي الوطنية الفلسطينية وضع يده على حقائقها ووقائعها شرط تمتعه بنظرة دائرية فاحصة ودقيقة مركزها القدس.

يخوض الفلسطينيون المقدسيون في هذه الأثناء معركة الربع ساعة الأخيرة الحاسمة التي سيتقرّر في لحظتها الخيرة مصير القدس على الأرض، فإمّا أن يبقيها أهلها الفلسطينيون عربية ويحافظوا على هُويتها الفريدة بين مدن العالم ويظلوا أوفياء للأمانة فيحمون المقدسات المسيحية والإسلامية مهما بلغت التضحيات وهذا ما يحدث الآن، أو أن عجلة مشروع تهويدها، وطمس هويتها العربية الفلسطينية ستمضي مع ابتداء حكومة دولة الاحتلال العنصري الإسرائيلية العد العكسي لفرض تقسيم المسجد الأقصى كأول هدف قبل تعميم التهويد على كل المقدسات بما فيها كنيسة القيامة شقيقة المسجد الأقصى، وهذا لن يحدث لأن الشرط الوحيد لحدوثه هو استسلام الفلسطينيين عمومًا والمقدسيين خصوصًا، وهذا ما سيعجز عنه أصحاب المشروع الصهيوني الاستعماري العنصري حتى لو شرقت الشمس من مغربها .

يعتقد المحتلون الإسرائيليون أن سبيلهم للسيطرة على مدينة الله (القدس) يمر عبر إخضاع الفلسطينيين أهل المدينة المقدسة وإيصالهم إلى الاقتناع أن ديمومة حيواتهم مرتبطة بأمر واحد وهو التسليم بسلطة الاحتلال ليس كأمر واقع وحسب، بل كصاحبة حق قديم جديد ما يعني تسليم حقهم التاريخي والطبيعي للغزاة المحتلين والمستوطنين العنصرين، ومكافأة البلفوري الجديد دونالد ترامب على قراراته باعتبار القدس عاصمة لقاعدته العسكرية الأكبر في العالم وفي الشرق الأوسط تحديدا المسماة (دولة إسرائيل).

تدمير بيوت الفلسطينيين وهدمها بحجة بنائها بدون ترخيص، وإجبار المواطنين على هدم بيوتهم بأيديهم، وتزوير وثائق ملكية البيوت في البلدة القديمة، اقتحام باحات المسجد الأقصى، والسماح للمستوطنين بإقامة احتفالات وطقوس فيها، حملات دموية تبدأ بالاعتقالات وتنتهي بتكسير عظام وإطلاق رصاص حي على المصلين، وحملات اعتقال لشخصيات سياسية ودينية واجتماعية، وقرارات بالإبعاد عن المسجد الأقصى وعن المدينة، أو قرارات بتقييد الحركة، وهذا كله يمكن وصفه بتسونامي جرائم الحرب فالقدس الشرقية حسب القانون الدولي أرض فلسطينية محتلة في حرب الخامس من حزيران من العام 1967. وكل تغيير (ديمغرافي) سُكّاني يعتبر جريمة حرب وكل قرار يحد من حرية حركة المواطنين الأصليين وحرية عبادتهم في أماكنهم المقدسة، أو تمكين سكان من الدولة القائمة بالاحتلال من السيطرة على أملاك ومقدّسات المواطنين الأصليين بغرض إجبارهم على الهجرة يعتبر جريمة حرب وليس مخالفة للقانون الدولي وحسب.

عند تكليف الرئيس محمود عبّاس أبو مازن للدكتور محمد اشتية عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" بتشكيل الحكومة الثامنة عشرة بدأ المحلِّلون السياسيون يتحدّثون عن العودة القوية لحركة "فتح" إلى المشهد الفلسطيني، لكنَّ رغم صواب هذا التحليل من هذه الزاوية، واعتقادنا بأنَّ معركة القدس والصمود فيها ستكون عماد البرنامج السياسي للحكومة القادمة، خاصّةً بعد جريمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحق قدسنا ومقدساتنا، فإنَّ ما يجب ألّا يغيب عن بال المتابع لحركة نضال الشعب الفلسطيني وأساليب مقاومته الشعبية السلمية، ومساراتها على الأرض يثبت له أنّ حركة "فتح" كانت وما زالت موجودة بقوة في أم المعارك (معركة القدس)، وأنَّها لم تتراجع حتى تعود، وإنَّما على العكس كانت وما زالت تتصدَّر المشهد بحكم الروح والعقيدة الوطنية الناظمة لثقافة وسلوك مناضليها، أيًّا كانت مواقعهم ومهماتهم التنظيمية أو الشعبية الاجتماعية أو الرسمية، ولعلَّ المرات التي اعتقل فيها عضو المجلس الثوري لحركة "فتح" محافظ القدس عدنان غيث، وأمين سر إقليم "فتح" في القدس شادي مطور، ومناضلين آخرين كثر في تنظيم الحركة يؤكِّد للباحث المتجرّد من أي مواقف سياسية مسبقة أن حركة "فتح" تراكم العمل النضالي الوطني على الأرض بدون ادعاء أو احتكار، فمناضلوها من مرتبة القادة والكوادر والأعضاء سباقون وفي المقدمة دائمًا، لكنّهم يفخرون بتقديم إنجازاتهم باعتبارها إنجازات وطنية لا حصرية لإدراكهم معنى المسئولية التاريخية في هذه اللحظات الحاسمة من معركة القدس عاصمة فلسطين .. فاللحظة المصيرية لا تحتمل التفكير بالمكاسب التنظيمية أو الحزبية، وهذا منطق الوطني الحقيقي.

هنا القدس.. هُنا تفتح أبواب الرحمة حتى إن أوصدها المستعمرون بالفولاذ، ويُرفع الأذان من أبراج الكنائس إن منع المحتلون العنصريون رفعها من مآذن المساجد، هنا في القدس "فتح" بلا جيوش ولا سيوف ولا خيول ولا عربات ولا دبابات ولا طائرات، هنا في القدس "فتح" تُعيد اللمعان لقبّة الصخرة في المسجد الأقصى وتمسح الحزن عن أبواب كنيسة القيامة، وتمد البيوت العتيقة في مدينة الله بروح الوطنية الفلسطينية، وتستمد من ثبات وصمود أهلها الإيمان بحتمية الانتصار.