خاص مجلة القدس- حوار: حنان باكير

توفيق حوري، شخصية إعلامية واجتماعية لبنانية بارزة، ولدَ في بيروت عام 1933، وهو من عائلة بيروتية معروفة بنشاطاتها الاجتماعية الخيرية البارزة. وبعد أن درس الاقتصاد والعلوم السياسية في إنجلترا، عاد إلى لبنان ليشارك في بدايات حركة "عباد الرحمن" ثم أصبح بالاشتراك مع رئيس وزراء لبنان أمين سر المجلس الإسلامي الذي كان يمثِّل الجماعة الإسلامية في لبنان. ويُعدُّ حوري أحد المساهمين في تأسيس جامعة بيروت العربية ما بين عامَي 1956 و1960. كما ساهم في العام 1980 بإنشاء جامعة الأوزاعي للدراسات الإسلامية، وهو حاليًا عضو في مجلس جامعة بيروت العربية، ويحملُ لقب مستشار الجامعة ورئيس مجلس أمناء وقف المركز الإسلامي.

من غير الممكن الحديث عن بدايات العمل الفدائي الفلسطيني، حتى قبل أن يكون له ذلك الحضور العلني في لبنان على مدى أكثر من عقد ونصف، دون ذكر توفيق حوري الذي شهِدَ من بيروت انطلاقة الثورة الفلسطينية، وكان هو بالذات من أصدر مجلة "فلسطيننا" التي نشرتها حركة "فتح" في بداياتها السرية، كما ربطته بالحاج أمين الحسيني -الذي كان مقيماً في بيروت- صداقة متينة، كتلكَ التي ربطته لاحقاً بياسر عرفات وخليل الوزير "أبو جهاد" في شبابهما المبكر وبدايات تأسيسهما مع رفاقهما لحركة "فتح". وفي الحوار الآتي معه.. يروي الحوري قصة مجلة "فلسطيننا" وسنواتها الأولى، ومساهمتها الكبيرة في حشد الفلسطينيين والعرب حول الثورة الفلسطينية في بداياتها.

 

متى صدرت "فلسطيننا" ومتى توقَّفت؟

في عام 1959، زارني في بيروت ثلاثة شبان، ياسر عرفات وخليل الوزير، وشخص ثالث لم أعد أذكر اسمه، لكنه يقيم في لبنان. ودار الحديث آنذاك عن رغبتهم في إصدار مجلة، على أن تكون مرخَّصة من الدولة، وأن يكون الترخيص رسميًا. فقمتُ بالاتصالات اللازمة، وكان من الصعب الحصول على ترخيص لصحيفة ذات طابع سياسي، ولكن كان يمكننا القيام بالنشر من خلال الصحف التي كانت تصدر في ذلك الوقت.

اقترحَ أحدهم، أن تكون المجلة باسمي، ويكون لي كامل الإشراف عليها، على أن تصدر من مؤسسة "عباد الرحمن" وأن يوضع عليها صندوق بريد المؤسسة المذكورة، وهكذا كان، وبدأت المقالات تصلنا وفي معظمها من الكويت.

 

كيف كانت تُطبع المجلة، وكيف كان يتم تمويلها؟

كانت المجلة  تُطبع على ورق جرائد عادي وبشكل مقبول في مطابع "عباد الرحمن" وعلى نفقة المؤسسة، واستمر هذا الوضع سنة كاملة. في ذلك الوقت نُشِر مقال في "فلسطيننا" يمس بالحاج أمين الحسيني، فانزعجتُ من ذلك، خاصةً أنني لم أكن أشرف بشكل مباشر على موضوعاتها، وإنما على إصدارها، كنوع من الحماية الأدبية، وشركة فرج للمطبوعات كانت تقوم بتوزيعها، فأخبرتهم بأني سأقوم بالإشراف عليها مباشرة بعد الذي حصل، وهكذا كان.

 

هل كان اعتراضك على المس بالحاج أمين الحسيني بسبب كونه رجل دين، أم لمواقفه السياسية، أم بسبب العلاقة الشخصية بين عائلتيكما؟

ربطتني بالحاج أمين صداقة متينة، ولكن ليس لهذا السبب اعترضت. فالقضية أنه في ذلك الوقت بدأ صراع بين الحاج أمين وبين الاتجاهات السياسية المصرية. وحدث ذات مرة، وفي لقاء في السفارة المصرية، حيث اجتمع معظم رجال السفارة الذين كانوا أصدقاء لي، وكنا نتدارس مشروع إنشاء الجامعة العربية، حين بادرني أحدهم بالسؤال قائلاً: "أليسَ بالإمكان أن نكتب في مجلتكم بعض المقالات؟" فكان جوابي: ألا تتركون أية مجلة تصدُرُ لوجه الله؟! هل من الضروري أن يكون كل شيء سياسيًا، لكنَّ هذا الحديث كان أخويًا، ومنذ ذلك الوقت أصبحتُ أشرِفُ على المجلة إشرافًا كاملاً ومباشرًا. وكان يقوم بإخراجها وتنسيقها شاب اسمه هاني فاخوري. وعندما باع "عباد الرحمن" مطبعتهم، أصبحت المجلة تُطبَع في مطابع جريدة "السياسة" لصاحبها عبد الله اليافي، وذلك بسبب علاقتي الشخصية بمدير المطبعة الذي كان أستاذي. فالمسألة كلها كانت تُؤمَّن بعلاقات شخصية.

 

اللغة الجديدة

كم عدداً صدر من المجلة؟

صدر من المجلة أربعون عددًا ما بين الأعوام 1959 و1964، وتوقَّفت عن الصدور في الأول من كانون الثاني عام 1965، مع تغيُّر الأوضاع، وبدء العمليات العسكرية الفلسطينية لحركة "فتح" إذ أصبحَت اللغة مختلفة مع بدء عهد جديد.

من كان يُحرِّرها ويكتب مقالاتها؟

لم يكن يُذكر فيها أي اسم، وقد كان من أحد شروطي أن تكون المقالات غير موقَّعة، علمًا بأن مناخ وأجواء "فتح" كانت لها علاقة مباشرة بها، ولكنها لم تكن "فتح" الحالية. وكانت هناك مجموعة من الشباب في قطر يترأسها الشهيد "أبو يوسف النجار" ومجموعة في الكويت يترأسها ياسر عرفات، وفي فترة من الفترات -لا سيما بعد استقلال الجزائر -كان الشهيد خليل الوزير، بالإضافة إلى مجموعة من مدينة الخليل برئاسة محمود مسودة، وهو شخصية غير معروفة الآن. وقد تحوَّلت المجلة إلى نوع من المنبر للقاءات بين هؤلاء، وبدأت الاتصالات تتم ما بين هذه المجموعات.

هل يُمكن أن نعدَّ هذه المجلة بمنزلة بداية حركة "فتح"؟

نعم، ويمكن أن يُقال إنها من أفكار "فتحاوية" الأصل، ولكن جهات كثيرة عُنِيت بها. فهناك مثلاً فاروق القدومي الذي كان مسؤول البعث في الكويت، ويمثّل جزءًا من المجموعة، بالإضافة إلى منشورات لا علاقة لها بالحركة، مثل نشر خرائطَ لفلسطين، بعد تغيير أسماء القرى والمدن، حتى يعرفَ الناس ماذا تغيّر، والذي ساعد في هذا الموضوع طلاب فلسطينيو الأصل كانوا يقيمون في أوروبا، وكان بإمكانهم الحصول على تلك الخرائط.

وبعد فترة من إصدار المجلة، تنبَّهت دائرة رقابة المطبوعات اللبنانية إلى أن هذه المجلة غير مرخصة، فكلموني بالأمر، وكان ذلك عام 1962، حيث كانت المجلة تُوزَّع كباقي الصحف، واتصل بي أحد المسؤولين في الدائرة متسائلاً: "بأي حق تصدرون هذه المجلة دون ترخيص؟! وهل لديكم عدد الآن في المطبعة؟"، فقلت نعم، وعندها قال: "طيّب احذف منها فقط (طُبِعت في بيروت)".. فقد كان المسؤول متفهِّمًا ومتعاونًا معنا.

وكان العمل في المجلة، عمل شباب وطني مندفع، بطابع إسلامي وطني. وكنتُ الوحيد الذي يُوقِّع مقالاته. ومع بدء العمليات العسكرية كانت المجلة قد أدَّت غرضها، ومع صدور بيان الثورة الذي كُتِب ووُزعِّ في بيروت، لم يعد من معنى لصدورها، بعد أن أصدرت أربعين عدداً، وهي للأسف غير متوافرة لدينا الآن.

المجلة إذاً كانت مرحلة تمهيدية لإشهار حركة "فتح" لاحقاً؟

- لا، فحركة "فتح" تبلورت في وقت سابق عن صدور المجلة، ولكني لا أنكر أن الفكرة، أي "فكرة فتح"، بدأت بالرغبة في إصدار المجلة، والمكان الوحيد الذي كان يمكن إصدارها فيه هو مدينة بيروت.

وصدرت المجلة رغم تشتّت تلك المجموعة من الشباب في عدد من البلدان العربية؟

صحيح، وذلك بسبب الانتشار الفلسطيني، وحالة الشتات التي عاشها الشعب، فقد كان النجار في قطر، والشهيد عرفات في الكويت ويعمل في وزارة الأشغال، وخليل الوزير كان يقيم في تلك الفترة في القاهرة، ثم جاء إلى الكويت، ومن الكويت ذهب إلى الجزائر.

اتجاه "فلسطيننا" الإسلامي مهم لقضية فلسطين، فما رأيكم بالتنسيق الإسلامي القومي لخدمة القضية؟

من الصعب تقييم الأشياء خارج زمانها، ففي تلك الفترة نشأ تيار قومي يساري، وكان هناك تيار قومي ناصري، وأيضًا تيار إسلامي، وكان الصراع بين هذه التيارات يشمل معظم البلدان العربية، فكان هنالك حرص على أن تكون المجلة محايدة، لا مع ولا ضد أحد الأطراف، بل في صلب القضية الفلسطينية فقط. وكل مَن كتبَ في هذه المجلة كان يُدرِك حجم الدور الذي بعثته في إيقاظ الوعي نحو فلسطين. ولم تتدخل في الخلافات العقائدية السائدة آنذاك، لأن الهاجس الأهم كان فلسطين، ولم تكن القضية ما هو نظام الحكم، وفلسطين أصلاً لم تكن محررة.

 

ذكريات سياسية

هل لكم من تعليق على أوضاع الشعب الفلسطيني في لبنان آنذاك أو مطالبه بشأنها؟

كانت المخيّمات تحت إمرة المكتب الثاني، ويفعل بها ما يفعل، وكانت العلاقة مُذِلّة وغير إنسانية، وكان وضع الفلسطينيين مأساوياً. وقد رأينا ردود الفعل على ذلك، خلال انفجار الأحداث اللبنانية بشكل واضح. وبحكم علاقاتي الشخصية مع بعض الشباب الفلسطيني، فقد عرفتُ المخيمات جميعها عن كثب، وقضيتُ أوقاتًا طويلة فيها، حتى أنني كنتُ أنامُ في الخِيم مع بعض الأصحاب من جمعية "عباد الرحمن".

وفي فترات لاحقة، صار الوضع مختلفًا، حيث كانت الدولة تتعامل مع هذه الأوضاع بشيء من اللين أو غض النظر، وبقيت المشكلة الكبرى كامنةً في قضية العمل، المتعلِّقة بمهن ممنوعة وأخرى مسموح بها، وهذه مشكلة غير موجودة في دول عربية أخرى، إلى جانب قيود السفر والعودة التي أُزيلت الآن. وهذه العلاقة، أدت إلى ما يجب ألا ننكره، أي إلى وجود كوامن كره وحقد، وقد قابَلت هذه المعاملة السيئة للفلسطينيين، تجاوزات ارتكبها بعض الفلسطينيين، خاصةً الذين قَدِموا من خارج لبنان، مما عقَّد العلاقة الفلسطينية – اللبنانية.

المفاوضات مع اليهود هل يمكن برأيكم أن توصل إلى التسوية ولو مؤقتة بين الفريقَين؟

إن "مفاوضات" كلمة قديمة جدًا، إذ ليست هناك مفاوضات دون حرب، والمهم ما هو الهدف من هذه المفاوضات؟ فأول لقاء سرّي تمّ بين الرئيس محمود عباس وجماعة من الحزب الشيوعي "الإسرائيلي" في سنة 1979 أو 1980، وقد أنكر الطرفان ذلك الأمر، ولكن الشهيد عرفات، عاد واعترف بالأمر لاحقًا في اجتماع له مع مجموعة من الضباط. وسُئِل يومها: "إلى أين نحن سائرون؟" فأجابهم "روحوا اسألوا توفيق لأنه يعرف" وطبعًا هذا كلام سياسي لا نريد الخوض فيه.

والمفاوضات برأيي لا معنى لها ما لـم نكن واقفين على أرض صلبة، وإلا كانت استسلامًا. وفي عام 1981 كان المرحوم أبو إياد في زيارة لرئيس الجامعة د. محسن خليل -وهذا الكلام لا دليل عليه لأن الشهود في ذمة الله اليوم- والتفت أبو إياد إلى الرئيس وقالَ له في معرض حديثه معه: "نحن برأي توفيق كلنا خونة".

فالمفاوضات يجب أن تتم من موقع قوة، حتى أن أحد التفسيرات التي أُعطِيت لحرب أكتوبر 1973 مثلاً، أنه ليس بالإمكان عقد اتفاق بين مصر "وإسرائيل" ومصر في حالة من الضعف، فكان لا بدَّ من أن تقف على قدميها حتى يتم الاتفاق.

هل كانت هناك بوادر تغيير مُبكرة على الخط التحريري لكامل التراب الفلسطيني لدى القيادة الفلسطينية آنذاك؟

لم تكن هناك أية إشارات إلى هذا الوضع، فإذا أخذنا النشرات التي كانت تُوزَّع في الحلقات المختلفة، وعلى الناس في السبعينيات وخلال الأحداث اللبنانية، فإن كلها كانت تقول لا مفاوضات لا صلح ولا اعتراف، وكان هناك إجماع كبير على هذا الشعار.

لكن المأخذ السياسي، إذا كان هناك مأخذ، أنه وبعد ظهور العمليات الأولى- أي تفجير نفق عيلبون في أوائل العام 1965 الذي بدأ يُعطي الثورة صبغتها العسكرية- بدأَت عند بعض القياديين شهوة أن تكون لهم علاقات مع الدول، وهناك شخصيات سهَّلت السُبُل لذلك. إلى أن كانت أول مقابلة بين عبد الناصر وياسر عرفات، ومروراً بحرب 1967، ومعركة الكرامة، وظهور هشاشة منظَّمة التحرير برئاسة أحمد الشقيري، فسقطت حُكمًا، لأنه ترافَقَ مع ظهور قوى أخرى على الساحة، فأصبح ياسر عرفات رئيسًا للمنظَّمة، وبقيَ الصراع إلى حين عقد مؤتمر الرباط حيثُ أُعلِنت المنظَّمة كممثِّل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني عام 1974.

ومن الصعب التَّكهُن بكيفية تغيُّر التكوين الاجتماعي للفلسطينيين، إذا ما حاولنا ربط هذه المتغيرات الاجتماعية بتغير المسار. ففي بداية النكبة وجدَ الفلسطينيون أن السبيل الوحيد لمواجهة حالة الانكسار، هو في التعليم، فأقبلوا عليه حتى بلغت نسبة المتعلِّمين عندهم أكثر من نسبتها في باقي الدول العربية، وقد شهدنا تلك الثورة العلمية العظيمة للفلسطينيين والانفتاح الواسع على جامعات دمشق وبغداد والجامعة الأمريكية، ثم جامعات دول المنظومة الاشتراكية. وهنا نتساءل: ماذا نقلَ هؤلاء الطلاب معهم من تلك البلدان غير علومهم؟ وما تأثير ذلك على الاتجاهات السياسية في ما بعد؟ يضاف إلى ذلك تأثير الشركات التي جاءت إلى مناطق البترول وهي في معظمها شركات تعتمد على اللغة الإنكليزية، وكان الفلسطيني هو العنصر المؤهَّل للعمل فيها، خاصةً أن معظمهم من خريجي الجامعة الأمريكية. لذا فلا أحد يعرف كيف تتم التغييرات. وأذكرُ في مراحل الإعداد للثورة العسكرية أن عرفات كان يقول لزوجتي: "أنا لن أتزوج.. وسأتزوج الثورة" ثم تغيرَّت الأمور، هذا على الصعيد الشخصي على الأقل.

 

اللاءات الثلاث.. والحصار

بتقديرك، كيف تحوّل الطرح من اللاءات الثلاث.. إلى المفاوضات؟

ليست لدي معلومات ملموسة لأبنيَ عليها رأيًا محددًا، لكنَّه الحصار.. حين تُغلَق الأبواب، ويترَكُ للإنسان منفذ واحد.

فبعد خروج المنظمة عام 1982 من لبنان وفي ظل مزيد من التشتُّت حيث أصبح الفلسطينيون كالبدو الرُّحل، بين تونس واليمن والجزائر، وأصبحت القيادات في متناول يد العدو، بغض النظر عن الأدوات المنفِّذة من اغتيال أبو جهاد وأبو إياد وغيرهما، يضاف إلى ذلك المزيد من التضييقات على الفلسطينيين في معظم البلدان العربية، لم يكن متاحًا إلا باب مدريد، ليتضحَ بعد ذلك أن هناك مفاوضات موازية لخط مدريد في أوسلو، ولا ندري إن كان هناك خط ثالث سنكتشفه فيما بعد. لذا في هذا الوضع رأى البعض أن بيتًا "من كرتون" أو خيمة في الوطن أفضل من الشتات، في ظل وضع عربي متشرذم مفتَّت. وفي عملية السلام برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، التقى الفلسطينيون ذوو الأهواء الغربية ممن تخرَّجوا في أمريكا، وذوو الأهواء اليسارية الذين تعلَّموا في روسيا، وقد بدا لهم أنها مبادرة ستُعيد لهم ولو جزءًا من حقهم، في حين رأى الطرف المعارض للمفاوضات أن ما جرى تخريب أكثر للقضية.