حوار: محمد علي سرور
 

 د.سليم نزّال مفكّر نرويجي من أصل فلسطيني حاضر في العديد من الدول حول العالم. نشر كتبًا بالعربية والإنكليزية في الفكر والثقافة، وله مؤلّفات أخرى في الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية والمسرح والشعر. كما أنَّ مقالاته ودراساته مُترجَمة إلى أكثر من عشرين لغة.

  تقول إنّ التاريخ قد انتهى ماذا تقصد بذلك؟ وهل كنتَ تعود إلى فوكوياما عندما قلتَ ذلك؟
شكرًا على هذا السؤال. أبدًا لم أفكر بفوكوياما، وقد انتقدتُهُ في ذلك الوقت، وقلتُ إنَّ ما خلص إليه كان من منظور أيديولوجي يعلب فيه التاريخ. أي أنّه وضع التاريخ الإنساني بطريقة حاسمة ونهائية وفق منظومة غالب ومغلوب. وأنا لا أعتقد ذلك. وكتبتُ حينها مُنتقِدًا النظرية، فقلتُ إنَّ فوكوياما انحاز للأيديولوجية أكثر من انحيازه للفكر. التاريخ هو حركة الإنسان على الأرض. وطالما أنَّ الحركة موجودة فإنّ التاريخ موجود. ولذا لا فوكوياما ولا سواه يملك مفتاحًا يغلق به التاريخ لأنّه حركة ممتدّة في المكان والزمان. وأنا حين أقول إنّ التاريخ قد انتهى فأنا أقصد مرحلة معيّنة من التاريخ. أي مرحلة سيطرة الرأسمالية بنموذجها الأكثر بشاعة وهو النيوليبرالية.
 نحنُ نعرف من سياق التاريخ أنّ النظام العالمي الجديد نتج بعد حصول صراعات وحروب وكوارث. صلح ويستفاليا عام 1648 على سبيل المثال أنهى مرحلة حرب الثلاثين عامًا في أوروبا وتشكّل نظام دولي يستند إلى مجموعة من الدول الأوروبية القوية. وأقول نظام دولي جديد بتحفّظ لأنّ العالم غير الأوروبي لم يكن معنيًّا بهذا. ثُمّ رأينا أنّ نهاية التاريخ مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وتأسيس عصبة الأمم وتشكُّل نظام جديد. وأيضًا في الحرب العالمية الثانية التي أنتجت نظام القطبين. لكن بعد انهيار الكتلة الشرقية حصل الاستثناء أنَّ دولة واحدة هيمنت على العالم. وأنا كنتُ على ثقة حينها أنّه وضع لن يستمر لأنّه لن يكون مقبولاً على المستوى الدولي. ثُمّ جاء ترامب لتفقِدَ الولايات المتحدة آخر ما تبقى لها من هيبة واحترام في العالم.
لذا من الصعب جدًّا في رأيي معرفة طبيعة التغيرات التي تحصل لأنّ الأوضاع لم تزل معقّدة وغير واضحة. لكن ما نراه الآن واضحًا كل الوضوح هو أنَّ العالم والنظام الدولي بالتحديد تعرّض لهزة قوية من الصعب معرفة حجم تأثيرها على العلاقات الدولية، لكن من المؤكّد أنّها لن تُبقِ الأمور على حالها كما كانت قبل ديسمبر- فبراير أي مرحلة انتشار الوباء.

 تسود الآن مقولة إنَّ العالم لن يبقى كما كان بعد "كورونا" كيف ترى الأمر؟
أنا أعتقد أنّ العالم لن ينتظر مرحلة ما بعد كورونا لأنّ التغيير قد بدأ، ونحن الآن نعيش مرحلة تشبه مرحلة اندلاع الحمم من بركان هائل. أي أنّك لا تعرف طبيعة التشكل الجيولوجي إلّا بعد انتهاء البركان. التغير في رأيي قد بدأ ولكنّه يحتاج وقتًا لكي نعرف آفاقه وحدوده وخاصة لناحية طبيعة النظام الدولي الناتج عنه. وضع العالم الآن مثل وضع الشخص الذى ضُرِبَ بقوة على رأسه إذا صحَّ هذا التشبيه، وعليه أن ينهض أوّلاً لمعرفة ما حصل ليبدأ من جديد. وحين أقول التغيير فأنا أقصد أنّ مناخ التغيير قد بدأ يعم العالم.
كلُّ مرحلة تاريخية تنشر مناخًا معيّنًا يصبح مقبولاً ويتم التأسيس السياسي عليه. مرحلة العبودية مثلاً كانت مقبولة في فترة ما من التاريخ إلى أن بدأت تتراجع إلى أن اندثرت. ثُمّ بدأ مناخ جديد لا يقبل هذا الأمر وبعدها تمّت صياغة قوانين وتشريعات لحظر العبودية.
نحن نرى الآن مناخًا واسعًا من النقد القاسي تجاه طريق تعامل الدول الكبرى في موضوع مكافحة الوباء.
لقد رأينا أمورًا ما كانت تخطر على بال أحد. مَن كان يصدّق قبل بضعة أشهر أنّ الدول الأوربية ستسرق معدات طبية من بعضها البعض. هذا مثل بسيط من انحدار أخلاقي غير مسبوق في العلاقات الدولية أمام أعيننا. لقد بدت أمريكا والدول الأوروبية كأنّها دول مترهّلة فاقدة الإرادة. دول كبرى لديها أسلحة تدمر الأرض عشرات المرات ولا تملك معدات طبية كافية! رأينا الاتحاد الأوروبي مرتبكًا ومتفرّجًا أمام كارثة الوباء في إيطاليا. كل هذه الأجواء ستقود بالضرورة إلى أسئلة حول دور المؤسسات الوحدوية مثل الاتحاد الأوروبي والناتو. وأسئلة كثيرة تتعلّق بالأنماط الاقتصادية المستندة إلى العولمة. لأنّه اتضح الآن،  حسب ما كان يقول المؤرّخ الفرنسي فرناند بروديل، أنَّ الدولة الرأسمالية وظيفتها الفعلية حماية المحتكرين وليس تنظيم المنافسة كما افترض آدم سميث أبو النظرية الرأسمالية. أي أنّها لم تعد محايدة كما افترض سميث. وكان سميث قد قال بضرورة وجود آليات لضبط التنافس وهذه لم تعد موجودة في النظام النيو ليبرالي. التغيير عادة يبدأ على مستوى الأفراد والجماعات والقوى المعارضة والمعادية للنظام القديم وبحركة نقد واسعة للنظام القديم.
كان النقد للنظام النيو ليبرالي ينحصر سابقًا في المجموعات اليسارية الضعيفة، لكنَّ النقد الآن لم يعد منحصرًا في فئة قليلة.
بدأ الناس العاديون يروون حقيقة أنَّ أمريكا التي تملك أسلحة عابرة للقارات تصرف عليها المليارات لا تملك معدات طبية كافية. وكان هذا الأمر صادمًا فعلاً.
هذا المناخ الذى يتشكّل الآن فاقد الثقة بمؤسسات العولمة والدمج الاقتصادي والاقتصاد النيو ليبرالي الذي تسيطر عليه الشركات الكبرى العابرة للقارات. لذا بدأنا نرى دعوات العودة لمنطق الدولة الوطنية  وأيضًا العودة إلى نظرية الاعتماد على الذات، وهو أمر ستكون له بلا شك آثار كبيرة على الشكل الجديد للنظام الدولي القادم.
ينبغي أن نتذكر أنَّ الكوارث الكبرى لا تمر بدون أن تكون قد تركت آثارًا كبيرةً في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة. معنى هذا أنَّ الكورونا قد كشف القدرات الفعلية للدول الكبرى، خاصةً أمريكا، فبما يتعلق بمساعدة الناس في الوباء، بدت ضعيفة أمام هذا الوباء..

كيف ترى وضع العالم العربي في ظلِّ هذه التغيرات؟
تاريخيًّا دفع العرب أثمان كلِّ نظام دولي جديد. النظام الدولي الجديد بعد الحرب العالمية الأولى أنتج تصريح بلفور عام 1916 الذى لم ينتظر حتى نتائج الحرب لكي يعلنه. وبعدها جاء تقسيم الكيانات العربية بين إنكلترا وفرنسا، والنظام الدولي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية أنتج دولة (إسرائيل) في فلسطين، وعالم القطب الواحد الذى نتج بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أدى إلى احتلال العراق.
 لهذا لا أخفي قلقي على مصير المنطقة العربية خاصةً في ظلِّ الصراعات العربية العربية وغياب دول عربية محورية ومبادرات حقيقية تقود العالم العربي إلى بر الأمان. لذا فإنَّ النصيحة الثمينة التي أقدمها للحكومات العربية أن يتناسوا خلافاتهم لأنّ القادم أعظم. الأخطار قد تزداد لأنّ الانهيارات الاقتصادية القادمة قد تؤدي إلى صراعات بين الدول الكبرى قد يدفع ثمنها العرب من جديد. أمّا على المستوى الفلسطيني فأكاد أجزم أنّها ستكون لها ارتدادات تضعف من القبضة الصهيونية والسبب أنّ الصهيونية تستمد قوتها من أمريكا التي تضعضعت قوتها، وبالتالي فأنا أعتقد أنَّ صفقة القرن قد انتهت وبدأت مرحلة جديدة ستكون على الأغلب لصالح الكفاح الفلسطيني. لذا على الفلسطينيين الآن التوجّه أكثر نحو الاتحاد لأنّ تحقيق الحلم الفلسطيني بات في رأيي أقرب الآن.
وهنا أعود لأستاذ الجابري في وصف الوضع العربي بالعقل المستقيل، وهو العقل الذي حان الوقت أن يسترجع ذاته.
لقد ابتكر محمد عبده الجابري تعبير العقل المستقيل ليشير إلى حالة الفكر العربي المترهلة. كانت نظرية المعرفة وليس السياسة أو الإيديولوجيا هي مدخل الجابري لمشروعه النقدي القائم على دراسة المصادر الفكرية للفكر العربي من يونانية وفارسية. نجح الجابري من خلال كل ما أثاره من عاصفة فكرية أن يضخ ربما نوعًا من ديكارتيه في الثقافة العربية التي لم تزل حتى الآن تدور حول ذات السؤال، ألا وهو كيف نتقدم؟ وكيف نحوّل طموحاتنا إلى حقيقة؟ ففي المراحل الماضية كنّا جميعًا ضحايا للأيديولوجيا التي أغرقتنا في سفسطائية بدون أن تنقلنا نحو التقدم على أرض الواقع، والدليل ما نراه من كوارث الآن ومن ضياع حقيقي للبوصلة والمنهج.

أنتَ منشغل بالسؤال الحضاري الذي تناولته في أكثر من كتاب. ما هو تصورك لوضع الحضارات في المرحلة القادمة؟
أوّلاً الحضارات تستمد قوتها من قوة الدول الحاملة لمشروع حضاري. لقد قاد الغرب العالم لبضعة قرون ومنذ عصر الاكتشافات البحرية في القرن الخامس عشر وما تبعها من ثورات سياسية مثل الثورة الفرنسية والأمريكية والثورة  الصناعية وعصر التنوير.
هذا في الوقت الذى تمّ فيه استغلال بشع للشرق وثروات الشرق وكل هذا أدّى إلى تغييب الشرق حضاريًّا وسياسيًّا.
أعتقدُ أنّ القدرات الصينية والجهود الخرافية التي بُذِلَت لمكافحة كورونا أدّت إلى تسريع صعود الصين إلى مرتبة القوة الدولية الأولى أو الثانية. كما اعتقد أنَّ الشرق كله أي العالم العربي والهند الخ بدأ يستعيد وعيه، وبدأ يدرك أنّ لديه الكثير من الطاقات التي ينبغي توظيفها لتنمية اقتصادية حقيقية.
منذ نحو ثلاثمائة عام فقد الشرق ثقته بنفسه وصار النموذج الغربي في المأكل والملبس وكل شيء النموذج الحضاري الوحيد الذى يتمّ تقليده.
ولذا أعتقد أنّ هذه الصدمة ستؤدّي إلى نوع من عودة الروح للشرق. لقد قدم الغرب ماركس ودارون وآدم سميث وكل هذا فكر يستند إلى فكرة القوة المادية، وأدّى هذا إلى استغلال بشع للطبيعة الأمر الذي يهدّد بكوارث بيئية حذّر منها علماء البيئة في العقود الأخيرة. أمّا الشرق فقد قدّم الأنبياء من بوذا إلى المسيح إلى محمد. وأعتقد أنّه حان الوقت لتوازن الحضارة الإنسانية لكي تقف على قدمين وليس على قدم واحدة كما كان الأمر.