تقرير: يامن نوباني

في ربيع 1948، دار مفتاح شفيقة القلة في باب بيتها في حارة الأكراد في مدينة صفد، دون علمها أنها المرة الأخيرة التي ستغلقه، لأن صفد ستسقط بيد الاحتلال وسيهجر أهلها.

في 11 أيار، سقطت صفد وهجِّر معظم ساكنيها العرب إلى لبنان وسوريا، وقدرت أعدادهم منتصف الأربعينات ب (12 ألف فلسطيني)، أما اليهود فقدروا حينها ب2400 نسمة، أما اليوم فلا يوجد فلسطيني يعيش في صفد، ويُقدر عدد اليهود حاليًا بـ30-33 ألفًا.

خرجت القلة مع أقاربها من صفد متجهة إلى حيفا، حيث تعمل العائلة، وخبأت مفتاح بيتها، لتنتظر 17 عاما، كي يدور المفتاح ثانية في نفس سُكّرته.

صيف عام 1965، عادت وعدد من أقاربها إلى صفد، أخرجت المفتاح وأدارته في فُتحة الباب، لتدخل هي وعائلتها إلى البيت الذي لا يعرفون عنه شيء منذ عام 1948، فتفاجأوا بساكنته، وهي يهودية رومانية، أطلّت عليهم بالصراخ وعن سبب مجيئهم ودخولهم! إلى بيتها كما تدعي!!

لم تتمالك القلة نفسها، فصرخت باليهودية: أنتِ ماذا تفعلين هنا؟ هذا بيتي، هذه كنبتي، هذه خزانتي، وهذا البيانو لنا... إلخ من أغراض البيت التي ظلت على حالها.

في تلك الرحلة القاسية، كان ابن ابنتها سعيد الصفدي (75 عامًا) الذي رافقها، لأول مرة يرى البيت الذي ولد فيه، وزرعوا داخله أجاصة، سميت على اسمه؛ لأنه كان الابن البكر للعائلة.

يقول الصفدي: ولدت في صفد عام 1944، لكن عشت في حيفا، بسبب عمل والدي وأقاربنا فيها، حيث كانت صفد تعاني من حالة اقتصادية صعبة.

ويضيف: زرت صفد وبيتنا أول مرة عام 1965، لأن البلاد كانت تحت الحكم العسكري حتى عام 1964، ولم يكن يسمح لنا بالحركة، لكني أحفظ صفد بكافة تفاصيلها، وكأنني عشت فيها، كنت أستقي المعلومات والحكايات عنها من جدتي شفيقة، التي توفيت عن عمر يناهز 94 عاما. وكانت حين يشتد عليها وجع الراس تلف حول رأسها شريطا معلق به مفتاح بيتها، في دلالة إلى شدة تعلقها بالبيت واشتياقها للعودة.

ويتابع صفدي، حكايته الشخصية وحكاية الجميع من أهل صفد: هجر أقاربنا من صفد، حتى وصلوا سيراً على الأقدام إلى بنت جبيل في لبنان، فبقي عدد منهم في لبنان، وتوجه المعظم إلى دمشق، وسكنوا في حارة اسمها "جوبر"، والتي تسمى اليوم "حي جوبر"، ومعظم سكانها من صفد، بينما بقيت أنا وعائلتي في حارة الكبابير في حيفا.

ويضيف: عام 1994 هدم اليهود حارة الأكراد بأكملها، وبقي بيتنا. كنا نذهب في كل عام لقطف الأجاص والعنب، وكنا نملك بئر ماء في ساحة وسط المنزل، إلى أن جاء عام 2017 وهدم بيتنا، فطمر البئر، والأجاصة، والعنب.

ويروي صفدي: إحدى الحكايات عن سلب الأراضي في صفد كانت في فترة العشرينات، فكان هناك قطعة أرض مرتفعة، ومزروعة بالأشجار المثمرة، لامرأة من عائلة عطايا السعدي، وخاصة العنب والزيتون، فحاولت امرأة يهودية اسمها سارة شراء الأرض، لكن أصحابها رفضوا، فقام الانجليز بمساعدة تلك اليهودية بقطع الأشجار المزروعة في الأرض، ولكن أصحابها كانوا يعاودون زراعتها مباشرة، ما دفع الانجليز إلى سجن أشقاء المرأة الفلسطينية صاحبة الأرض، وتسهيل الاستيلاء عليها لصالح اليهودية التي أسست عليها فندقا مطلا، اسمته "فندق سارة" ما زال قائما حتى اليوم، تحت اسم "فندق كنعان".

ويبين: صفد عاصمة الشمال، وكان التجار يستوردون البضائع من دمشق الى مخازن في صفد، ثم يوزعونها على فلسطين. وهناك أسماء كثيرة لقبت بالصفدي دون ان يسكنوها فقط، فقد كانوا يستأجرون حواصل فيها.

وفي عام 1948، سجل جهاز الإحصاء حينذاك عائلتنا من "علي زهرة" إلى عائلة "الصفدي"، حتى لا تضيع اسماء البلاد.

ويضيف: أثر زلزال 1837 على صفد بشكل كبير، حيث أصابتها حالة ركود اقتصادي كبيرة، ما دفع الكثيرين من أبناء المدينة إلى الرحيل عنها، متوجهين إلى حيفا، وعكا، وغيرهن من المدن.

ويقول: كانت صفد تشتهر بدقاقي الحجر، كما اشتهرت بالتعليم والصحة، وبوجود أماكن دينية لكافة الأديان السماوية.

يُشار إلى أن 83 قرية تابعة لصفد قبل النكبة تم هدمها، وتهجير أهلها، لم يبق منها إلا خمسة، هي: طوبا، والريحانية، وعكبرة، والجش، وحرفيش.

كما أن زلزال عام 1837 كان الأعنف في تاريخ المدينة، حيث تشير التقديرات إلى أن 2000 شخص لقوا حتفهم بسببه، وتدمرت أجزاء كبيرة من المدينة.