تقرير: إيهاب الريماوي

اعتاد الفتى محسن أبو غربية (17 عاما)، منذ طفولته، زيارة قبر والدته الشهيدة سريدا أبو غربية، التي لم يعش معها سوى تسعة أشهر، بعد أن سقط مضرجا بدمائها إلى أرضية مركبة والده أواخر آذار عام 2002 في رام الله.

في تلك الليلة ضلت عائلة مراد أبو غربية الطريق، دخلوا طريقا تتمركز فيه دبابات إسرائيلية، هاجمهم جيش الاحتلال وانزل مراد من المركبة، زوجته سريدا خافت على طفلها فحاولت أن تخبئه إلى أقرب مكان من القلب.. جندي بعقب البندقية يكسر الزجاج الخلفي ويطلق رصاصة قاتلة على رأسها، ليسقط الرضيع محسن ويرتطم بأرضية السيارة، بينما أصيب مراد برصاصة في رقبته وثلاث رصاصات في كتفه وسقط على الأرض.

حينذاك اجتاح الاحتلال كافة المدن والقرى في الضفة الغربية، في عملية عسكرية أطلقت عليها سلطات الاحتلال اسم "عملية السور الواقي"، ورام الله لم تكن استثناء حيث كان حصار مقر الرئيس الشهيد الراحل ياسر عرفات.

ليس ببعيد عن مقر الشهيد عرفات، كانت عائلة أبو غربية تسكن في حي عين مصباح بعمارة سكنية، ولما اشتد الاشتباك بين المقاومة وجيش الاحتلال قرر مراد مغادرة المنزل إلى بيت أهل زوجته الذي يفصل بينهم شارعا واحدا، وكونهم يقطنون في منزل أرضي.

قبل مغادرتهم المنزل بساعات طرق شخص ما باب شقتهم، ولما فتح مراد الباب كان شاب مصاب بجروح خطيرة لا يقوى على الحراك، سوى يده اليسرى، طلب له سيارة إسعاف والتي وصلت بصعوبة إلى المنطقة التي كانت ملتهبة بالاشتباك.

غادرت العائلة المكونة من 3 أفراد (مراد، وسريدا، ومحسن) المنزل بحدود الواحدة والنصف ليلا، الاشتباك كان مستمرا والضباب كان كثيفا.. مراد كان يقود سيارته على مهل، ولسوء حظه أدار مقود السيارة إلى الجهة التي يتمركز فيها جيش الاحتلال ووقع فريسة بين أيديهم.

قتلوا سريدا، وأصابوا مراد، لم يلاحظوا وجود محسن الذي كان على أرضية المركبة، بعدها انسحب الاحتلال من المنطقة.

استجمع مراد الجريح قواه وذهب إلى المركبة حيث كانت زوجته قد فارقت الحياة، فحمل طفله محسن محاولا الابتعاد، كانت المنطقة تعج بجيش الاحتلال، ولما خارت قواه وضع ظهره على جرافة كانت تقف على طرف الطريق، لكنه ما لبث أن فقد الوعي.

سقط محسن من بين يدي والده وصار يصرخ، سمعه الجيران ونزلوا لإنقاذهما، حيث طلبوا سيارة الإسعاف التي قامت بنقلهما إلى المستشفى.

دفنت سريدا مع 8 شهداء آخرين في ساحة خلفية بمجمع فلسطين الطبي، الاحتلال كان يمنع أي مظاهر لتشييع الشهداء، فاضطرت العائلات لدفن أبنائها هناك.

اعتقل الاحتلال مراد بعد الحادثة بأسبوعين، وحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر رغم أنه ما زال يعاني من إصابته، ومحسن الرضيع بقي عند أهل والدته.

في عام 2004 تزوج مراد، كان يبحث عن امرأة تهتم بطفله، فسريدا قبل استشهادها بفترة قصيرة قالت لزوجها: "إن حصل معي مكروه، فتزوج بامرأة تخاف الله في محسن".

بالنسبة لمحسن فإن الفقدان لم يشعر به مطلقا، وعى على الدنيا وكانت "عايدة" زوجة والده هي أمه، اهتمت به أفضل اهتمام، يناديها بـ"أمي"، لم تشعره قط بالنقص، تفضله وتميزه عن باقي أشقائه .. دائما محسن هو الخيار الأول، منحته حنان الأم الحقيقي.

يشتاق محسن دائما لوالدته الشهيدة، رغم أنه لا يتذكر شيئا منها، لكنه يشتاق فقط.

محسن وفي كل مناسبة يزور قبر والدته، يحمل معه الورود، ويخبرها عن حاله وعلاماته، ويقول: "ما أجمل أن نملأ عقولنا وقلوبنا بذكريات من رحلوا".

الشهيدة سريدا التي كانت تعمل في دائرة الإشراف والمحاسبة بوزارة التربية والتعليم، كان تملك كنزا كبيرا من المعلومات، حيث تشارك في برامج المسابقات التي تعرض على التلفزيون، وكثيرا تحصل على جوائز، مقدم البرنامج تعجب من هذه السيدة التي تملك هذا المخزون من المعلومات.

ذات مرة ذهبت لاستلام جائزتها، ولما تعرف عليها مقدم البرنامج أعجب بها، وفي مرة لاحقة لم تتمكن من الذهاب لاستلام الجائزة فذهب والدها عوضا عنها، وهناك قرر "مراد أبو غربية" أن يتقدم بطلب خطبة سريدا، و"حصل النصيب".

شارك مراد أبو غربية في مسابقات لتلاوة القرآن الكريم في البوسنة والهرسك، والكويت، واندونيسيا وماليزيا، وحصل على عدة جوائز. ومحسن لديه موهبة في الإنشاد الديني والكتابة الإبداعية.

"دائما كان المفاجأة والاكتشاف، أعمق طلابي في دروس الكتابة الإبداعية وأقربهم إلى ذهنية الإبداع والتجريب والمغامرة والسؤال والتحليل والتركيب، وأحد أبرز أبطال الفيديوهات والأفلام التي صورت عن تجارب الإبداع في مدارسنا". يقول عنه الشاعر زياد خداش.

محسن الرضيع الذي أسقط من حضن والدته لحظة إصابة والدته برصاصة غادرة، يستعد الصيف القادم لتقديم امتحانات الثانوية العامة. لا يعرف ماذا سيدرس، لكنه يميل للمحاسبة، التخصص الذي كانت والدته قد درسته.. ربما تخليدا لذكراها.