"   ما فوق الحقيقة" أو post-truth هو مصطلح جديد نسبياً يتم استخدامه بشكل متزايد، وقد أعلنت مؤسسة  "قواميس اوكسفورد" عن اختياره "كمصطلح العام" لسنة 2016 حيث لوحظ ازدياد في استخدامه مقارنة بسنة 2015 بنسبة 2000 بالمئة!

ماذا يعني هذا المصطلح؟ باختصار: في مجال تشكيل الرأي العام فإن مخاطبة العواطف وإعطاء المعلومات التي تتناسب مع عقلية المتلقي هو أهم بكثير من قول الحقيقة.

قد يؤدي الأخذ بالترجمة الحرفية للمصطلح باللغة الإنجليزية إلى عدم فهمه، فكلمة (Post) تعني "ما بعد" مثل مصطلح (post-colonialism) للتعريف بفترة ما بعد الاستعمار، أو مصطلح (post-war)  أي فترة ما بعد الحرب، إلا أنَّ مصطلح (post-truth) لا يعني "ما بعد الحقيقة" بمعنى أن الحقيقة قد انتهت ولم يعد لها وجود، وإنما يعني القفز فوق الحقيقة وتجاهلها رغم وجودها.

لقد شهد العام الماضي تزايداً هائلاً في استخدام هذا المصطلح، وذلك نتيجةً لظهور ثلاث محطّات مفصلية:

- التصويت في بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي

 - حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية وما أدت إليه من فوز دونالد ترامب

 -حملة العداء للاجئين من دول الشرق الأوسط إلى أوروبا

 إنَّ الصفة المشتركة لكل هذه الأحداث هو الاعتماد على حملة منظمة من الكذب واستخدام أنصاف الحقائق وترديدها بشكل مستمر وعلى مدار الساعة بحيث تصبح جزءاً من المسلّمات.

ففي الحملة التي نظَّمها الداعمون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كانت الأكاذيب هي الأساس، كالقول مثلاً أن بريطانيا تدفع يومياً لموازنة الاتحاد الأوروبي مبلغ 50 مليون جنيه استرليني، ولم يُعر أحد أي انتباه للحقائق التي كان يردِّدها دُعاة البقاء في الاتحاد. كما أنَّ حملة ترامب الانتخابية لم تتطرق لا من قريب ولا من بعيد للمشاكل الحقيقية التي تعاني منها أمريكا وإنَّما تمَّ استخدام معلومات مغلوطة أدت في النهاية إلى تشكيل رأي عام لا يقبل التعامل مع الحقائق كالقول مثلاً أنَّ الجريمة في أمريكا قد تضاعفت عدة مرّات بينما تقول الحقائق إنَّها في انخفاض مضطرد. وفي فيما يخص أزمة اللاجئين فلا حاجة للقول أن القوى المعارضة لاستيعابهم في أوروبا قد استخدمت كل أدوات الكذب لتكوين رأي عام أصبح يربط بشكل تلقائي بين اللاجئ والمسلم والإرهابي.

لقد شهدنا ظهور قوى سياسية وأحزاب عديدة تتَّخذ من "القفز فوق الحقيقة" سياسة يومية تمارسها بشكل فج مما يضمن لها جمهوراً متزايداً من المؤيدين الذين فقدوا الثقة بالإعلام التقليدي أو الحكومي، وأصبحت عقلية المؤامرة هي السائدة لديهم في تفسير التاريخ والحاضر وما يتم تحضيره للمستقبل.

يمكن القول أن هذا المصطلح بمعناه الحالي قد تم استخدامه للمرة الأولى سنة 1992 من قِبل الكاتب الأمريكي ذي الأصول الصربية (Steve Tesich) في مقالة له في مجلة (The Nation)، وقد استخدمه في معرض تفسيره لما رافق حرب الخليج الأولى وفضيحة إيران-كونترا من أكاذيب، حيث خلص إلى نتيجة أن المجتمعات الغربية قد استسلمت بشكل طوعي ودخلت في مرحلة "ما فوق الحقيقة".

وفي عام 2004 صدر كتاب للمؤلف الأمريكي (Ralph Keyes) بعنوان: "عصر ما فوق الحقيقة -الرياء والخداع في الحياة المعاصرة" حيث يقول فيه أن الإنسان المعاصر لا يعير اهتماماً لوضع حد بين الكذب والحقيقة، لأن الكذب لم يعد رذيلة ينبذها المجتمع وإنَّما أصبح طريقة للحياة ولكسب الشعبية والشهرة، خاصة في زمن "الانترنيت" (أو الشابكة) حيث يمكن لأي شخص أن يبقي مجهول الهوية وان يخاطب مجموعة كبيرة من الناس مستخدماً ما يروق له من أكاذيب دون أن يتعرض للوم الآخرين لو تم اكتشاف كذبه. كما أن ما تقوم به القنوات التلفزيونية المتخصصة ببث الأخبار على مدار 24 ساعة هو مثال آخر على التلاعب بعقول الجمهور من خلال تكرار الخبر الواحد لعشرات المرات بحيث يصبح المتلقي جاهزاً للتعامل معه كحقيقة لا جدال فيها، خاصّةً إذا كان الخبر متلائماً مع ما لديه من آراء ومعتقدات، وعادة ما تخاطب كل قناة جمهوراً خاصّاً بها وتعمل على تشكيل آرائه أولاً، ثُمَّ تُنمّيها وتُرسِّخها في اتجاه معين تعمل هي على نشره. الأمثلة على ذلك في الإعلام العربي كثيرة، إذْ تضاءل دور الإعلام القُطري وانتشرت بدلاً منه القنوات الفضائية التي تخاطب المتلقي العربي بغض النظر عن مكان إقامته، وبالنتيجة أصبح هناك جمهور يتعامل مع قناته "الخاصة" التي تخاطبه بما يرغب هو بسماعه وليس بما يجري حقيقةً على أرض الواقع، ويستطيع المتابع أن يرى كيف أصبحت فنوات الجزيرة أو العربية أو الميادين وغيرها تتمتع بجمهور محدد يتعامل معها كأنها مصدر الحقيقة الوحيد وأن ما عداها هي قنوات تحترف الكذب وتروج للطائفية.

لقد جرت دراسات مستفيضة لهذا المصطلح، ولا تخلو جريدة أو مجلة مرموقة من مقالة أو دراسة حوله. في صحيفة الاقتصادي (The Economist) تمَّ تعريف المصطلح بأنّه تجسيد لحالة لم يعد للحقيقة فيها أهمية تُذكَر، وأصبح القول الفصل للوسائل التي تؤدي إلى كسب المزيد من المؤيدين. وتضيف "الغارديان" إلى هذا الوصف سمةً أخرى هي انتشار الخطاب السياسي الشعبوي أي مخاطبة الجمهور بما يحب سماعه، حيث أن كل سياسي يتحدث وكأنه هو الممثل الحقيقي الوحيد للجمهور، وإذا أتت نتيجة الانتخابات بعكس ما يرجو فالتهمة جاهزة: لقد قامت "النخبة" بتزوير الانتخابات.

يتَّضح مما تقدَّم أنَّه لا يجوز الاستسلام لما يتمُّ تداوله حولنا أو ما يتم تقديمه لنا "مجاناً" وكأنَّه حقيقة مُطلقَة، وإنَّما يجب التعامل مع كل خبر أو فكرة أو رأي بعين الناقد، وهنا تبرز أهمية تحصين الذات بالمزيد من التثقيف والقراءة والقدرة على التحليل والنقد والابتعاد عن نظرية "الأبيض والأسود" أو "الشر المطلق والخير المطلق"، فتشكيل وجهات النظر يبدأ قبل حوار الآخرين بحوار الذات وطرح الأسئلة الصعبة ومحاولة البحث عن أجوبة لها، أمَّا القبول بما يصنعه الآخرون لنا من قوالب ووضع أنفسنا داخلها طوعاً ومن دون استخدام الفكر والعقل والمنطق فهذا تنازل مجاني عن استقلال الذات الإنسانية وعن قدرتها على التميّز عما حولها بوجهة نظر تخصّها، لا تتشكَّل بالإيحاء من الآخرين، وإَّنما نتيجةً للتقصي والدراسة والبحث المستمر عن الحقيقة.