يتسابقُ السياسّونَ في العُبوسِ وتقطبيبِ الوَجهِ عملاً بقولِ الشّاعرِ: "والكلُّ إذا ركِبَ الكُرسيَّ يُكشّرُ في النّاسِ كعنترةٍ"، وكأنَّ هيبةَ السياسيِّ أو المسؤولِ ومكانتَهُ تتناسبُ طرديّاً مع قُدرَتِهِ على بثِّ الحُزنِ والقلقِ والخوفِ في نفوسِ عامّةِ النّاس! ولا تقتصِرُ عبادةُ التجهّمِ والتخويفِ على السياسيّينَ، لكنّها أصبحتْ الوسيلةَ الوحيدةَ التي يُتقِنُ استخدامَها بعضُ شيوخِ "الدعوةِ" إلى دينِ اللّهِ الذينَ امتهنوا حرفةَ بثِّ الرّعبِ في أوصالِ البُسطاءِ ظنّاً منهُم أنَّ هذا هو المدخلُ الوحيدُ إلى الإيمانِ ومخافةِ اللهِ. ولو كلّفَ هؤلاءُ أنفسَهم عناءَ البحثِ لاكتشفوا أنّهم ينفّرونَ الناسَ من "الدّينِ" الذي يدْعونَ إليهِ، وهو في الحقيقةِ لا يمتُّ بِصِلَةٍ إلى الدينِ الحقيقيِّ الذي يرتكزُ على الحسنى والكلمةِ الطيّبةِ ومجادلةِ الناسِ بالحجةِ ومقابلتِهم بالوجهِ الحَسَن. 

 

تتزايدُ في الآونةِ الأخيرةِ أهميّةُ العلاجِ بالضّحِكِ كطريقةٍ أثبتت فعاليّتَها بناءً على دراساتٍ وتجاربَ علميّةٍ ملتزمةٍ بمعاييرِ البحثِ العلميِّ المهنيِّ التي يتمُّ تطبيقُها في كلِّ مجالاتُ العلومِ الحديثة. وتعودُ بداياتُ الحديثِ عن هذا النّوعِ من العلاجِ إلى عام ١٩٧٦ عندما قامَ العالِمُ نورمان كوزينز Norman Cousins بنشرِ مقالةٍ في مجلة "نيوإنجلاند الطبية" (New England Journal of Medicine) تحتَ عنوان: "تشريح المرض" التي وصفَ فيها تأثيرَ الضّحِكِ كمُسكّنٍ للألم. فقد لاحظَ هذا العالِمُ الذي كان يعاني من التهابٍ الفقارِ اللاصِقِ (أو التصلّبيّ) أنّ الضّحكَ لمدةِ 10 دقائقَ كانَ له تأثيرٌ إيجابيٌّ ضدَّ الألمِ يمكّنُهُ من الخلودِ إلى النومِ دونَ الإحساسِ بالألم ودونَ الحاجة إلى تناولِ المسكّناتِ التقليديّة. وقد قامَ الطبيبُ الإسبانيُّ رامون مورا ريبول Ramon Mora-Ripoll مؤخَراً بمراجعةِ الأوراقِ البحثيةِ التي تمَّ نشرُها في المجلاتِ العلميّةِ التي تحظى بالاحترامِ والمهنيّةِ العاليةِ خلالَ السنواتِ العشرينَ الماضيةِ، ثمّ نشرَ استنتاجاتهِ في مقالةٍ طويلةٍ في مجلة Medicina Clinica تحدّثَ فيها عن فوائدِ إدخال العلاج بالضّحكِ إلى الممارسةِ الطبيّةِ اليوميةِ، خاصةً أن هذا النوعَ من العلاجِ لا يتطلبُ أي نفقاتٍ ماليةٍ إضافيّة.

 

 لقد ثبتَ أنَّ الضّحكَ، وبغضِّ النظر عن عُمْر ِالمريضِ، يحسّنُ المزاجَ ويؤثر إيجابياً على رفاهِ المرضى ونوعيةِ حياتِهم. كما أنّ العديدَ من الأبحاثِ تُثبِتُ الدورَ العلاجيَّ للضّحكِ في حالاتِ التّوتّرِ واضطراباتِ النّومِ. ويعتبَرُ المرضى الذين يعانونَ من الاكتئاب هدفاً جيّداً لهذا العلاجِ، فالضَّحكُ يقلّلُ من شدةِ المرضِ ويمنعُ تفاقُمَه. ويتمُّ استخدامُ هذا العلاجِ غيرِ التقليديِّ للتّعاملِ مع مرضِ انفصامِ الشخصيةِ، حيثُ ثبتَ أنّهُ يقلّلُ من "عدوانيّةِ" المرضى ويساهمُ بإعادتِهم إلى ممارسةِ النّشاطِ الاجتماعيِّ ورفعِ مستوى الثّقةِ بالنّفسِ وبالآخرينَ.

 

 لا تقتصرُ فعاليّةُ العلاجِ بالضّحكِ على الأمراضِ والمشاكلِ النفسيّةِ، فقد أثبتت الدّراساتُ أنّ التأثيرَ الإيجابيَّ لهذا العلاجِ يستندُ إلى التغيّراتِ التي يُحدِثُها في عملية التمثيل الغذائي للجسمِ. فالضّحكُ يؤدي إلى ارتفاعِ مستوى الموادِّ المعروفةِ باسم "إندورفين بيتا" في الدّمِ، وهي موادُّ طبيعيّةٌ تعرفُ أيضًا باسم "هرمونات السَّعادة". كما أظهرت أبحاثٌ أخرى أنَّ مشاهدةَ الأعمالِ الفنيّةِ السّاخرةِ ​ يؤدي إلى انخفاضٍ واضحٍ في مستوى هرمونِ الكورتيزول والأدرينالين في الدم، وهما مادّتانِ مسؤولتانِ عن التوتِّر. وأمّا فيما يتعلّقُ بالدورةِ الدمويةِ، وعلى الرّغمِ من أنَّ الضَّحكَ يؤدي في البدايةِ إلى زيادةِ معدّلِ ضرباتِ القلبِ ومعدلِ التنفسِ، لكنّهُ سرعانَ ما يؤدي إلى تباطؤٍ دائمٍ في عملِ هذينِ الجهازينِ لفترةٍ طويلة، كما أنّهُ يزيدُ من نسبةِ تشبّعِ الدم بالأوكسجينِ ويقلّلُ من خطرِ تصلّبِ الشرايينِ وما يتسبّبُ بهِ من مضاعفاتٍ خطيرة. كما ثبتَ أن الضّحكَ فعالٌ في تقليل خطرِ الإصابة بالنوباتِ القلبيةِ وفي خفضِ ضغطِ الدّمِ ومستوى الكوليستيرولِ لدى مرضى السُّكري. الجديدُ في مجالِ العلاجِ بالضّحكِ هو ما أكَدتْهُ الدراساتُ الحديثةُ حول التأثيرِ الإيجابيِّ لهُ على جهازِ المناعةِ في جسمِ الإنسانِ، وقد لوحظُ في هذهِ الدّراساتِ زيادةٌ واضحةٌ في العدد الإجمالي لكرياتِ الدّمِ البيضاءِ إضافةً إلى ارتفاعِ نسبةِ الغلوبولين المناعي وارتفاعُ عددِ الخلايا المناعية المسؤولةِ عن مقاومةِ الأمراضِ المُعديةِ.

 

كلُّ ما حولَنا بستدرِجُنا إلى الإدمانِ على العبوسِ واعتبارِ الضّحكِ نذيرَ شؤمٍ وتمهيداً لمصيبةٍ أو كارثةٍ، بينما تؤكدُّ الحقائقُ العلميّةُ أنّ الضّحكَ هو أقلُّ الأدويةِ كلفةً للتغلّبِ على العديدِ منَ الأمراضِ.

 

يقولُ الشاعرُ إيليا أبو ماضي:

قالَ: السَّماءُ كئيبةٌ! وتَجَهَّما... قُلتُ: ابْتَسِمْ! يكفي التّجَهُّمُ في السَّما!

 

١٨-١-٢٠٢٠

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان