لا تمتلك "فتح" رفاهية الاختيار بين احتمالات متعددة، هكذا كانت منذ انطلاقتها وعبر مسيرة قيادة المشروع الوطني الفلسطيني المعاصر، فأمام كلِّ محاولات الأعداء للانقضاض على هذا المشروع كانت "فتح" دومًا منحازةً إلى مصلحة الشعب والوطن، لذلك لم تتردد يومًا في تصدّر صفوف المقاتلين ولم تترك شعبنا وحيدًا في أية معركة مهما كان حجمها وبغض النظر عن طبيعة القوى التي يجب التصدي لها..
لم يتبدّل شيء، وما زالت مهمة "فتح" الأولى هي الوقوف مع الشعب بدون تردد. ماذا يعني ذلك الآن؟
أولاً: مصلحة الشعب تتمثل في استمرار التصدي لخطة ترامب-نتانياهو المسماة زورًا وبهتانًا بصفقة القرن، وما مشروع ضمّ الأغوار الفلسطينية سوى واحدة من نتائج تلك الخطة. من غير المسموح به أن تتراجع "فتح" عن موقفها هذا، مهما كان حجم الضغوط التي تتعرض لها أو الإغراءات التي يلوّح بها معسكر الأعداء والأشقاء وأنصاف هؤلاء وأولئك.
ثانيًا: وقف العمل بالاتفاقيات التي نظّمت علاقتنا بدولة الاحتلال ليس عملاً انتحاريًا، وإنما هو اختيار دقيقٌ لأحد الأسلحة التي احتفظنا بها "ليومنا الأسود" رغم علمنا أن العدوّ قد تنصّل من كل تلك الاتفاقيات يوم قتل رابين ويوم حاصر وقتل قائدنا ورمزنا أبو عمار.
ثالثًا: قد يقول قائل: وما فائدة النكوص عن استلام مستحقّات المقاصة والمتضرّر من ذلك أولاً هو المواطن والموظف والملتزم بالسلطة خياراً وعكّازة رزق؟ الجواب أننا شعب تحت الاحتلال، ورغم ما ننتزعه عنوةً وكل يوم من شروط الحياة الحرّة الكريمة، فإنَّنا نتعامل مع أنفسنا كأسرى في سجن الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي "الكبير"، ومثلما يستخدم أسرانا في السجون "الصغيرة" اضراباتهم عن الطعام للصراخ في وجه السجان لا يضيرنا في سجننا الكبير أن نستخدم السلاح ذاته للتعبير عن رفضنا لكلِّ ما يحاول ترامب ونتانياهو فرضه علينا. ومثلما لم نسمع يومًا صوتًا واحدًا يطالب الأسرى بفك إضراباتهم "لأنهم جوعى" فلا سبيل سوى صمودنا في معركة "المقاصة" ورفض محاولة مقايضة أموالنا الشرعية بحقوقنا الشرعية.
رابعًا: واهمٌ من يظن أنَّ المعركة مع المحتل تقتصر على مواجهة الاستيطان الاستعماري والاقتحامات والاعتداءات اليومية والإعدامات الميدانية التي تطال شابّاتنا وشُبّانَنا بشكل ممنهج، كما أنَّ المعركة لا تقتصر على تحمّل مشاقّ "الإضراب عن الطعام" الذي يخوضه شعب بأكمله، لكنّها تمتدُّ لتشمل التصدي لمحاولات تخريب النسيج الاجتماعي والإطاحة بالسلم الأهلي في محاولة من معسكر الأعداء لإسقاط القلعة الفلسطينية من الداخل. وبينما تبدو صورة المعركة المباشرة مع المحتل ومع السياسة الأمريكية واضحةً لا تحتمل اللبس، فإنّ معركة الحفاظ على القلعة الفلسطينية من عبث العابثين تحتاج إلى الصبر والحكمة والذهاب في الحوار مع أية احتجاجات شعبية إلى أبعد مدى، ففي اللحظات الصعبة يُمتحَن معدن المناضلين المتمسّكين بخيار الانحياز إلى الشعب، لكنَّ هذه اللحظات أيضًا هي التربة الخصبة لنشر الشائعات وإثارة الغرائز واللجوء إلى منطق العشيرة والعائلة والحارة كبديل عن الالتزام بالوطن والمواطَنة وبالقانون وبتغليب مصلحة الوطن على أية مصلحة أخرى.
خامسًا: تُفاقِم جائحة "كورونا" من حجم الصعوبات التي نواجهها كشعب وسلطة ومؤسسات تحاول بناء ركيزة الدولة العتيدة. ولا يخفى على أحد أنَّ هناك محاولات حثيثة لنسف كل ما حقّقناه في بداية الجائحة من إنجازات. ولا سبيل للتغلب على الجائحة سوى نشر الوعي والتعامل مع هذا الوباء بكل ما يحمله من مخاطر تهدد حياة الناس وتنذر بتعطيل قدرة مستشفياتنا على استيعاب الأعداد المتزايدة من المصابين، وتشلّ حركة الاقتصاد التي تعاني أصلاً من الحصار في ظلِّ معركة اختبار الإرادات و"عضّ الأصابع" مع المحتل.
سادسًا: تدرك "فتح" أهمية تحصين المتاريس الوطنية ومحاولة سدّ الثغرات التي قد يتسلّل منها الطوفان الذي يهدّد البيت الفلسطيني بكلِّ من فيه وبكل ما فيه، من هنا نتفهّم محاولات قيادة الحركة جرّ قيادة "حماس" إلى مربّع الحوار والتوافق الوطني. وهنا لا بد من التأكيد على مسألتين: الأولى تكمن في مسلّمة لا جدال فيها وهي أنَّ الفتحويين لا يثقون بصدق نوايا قيادة "حماس" وبسعيها نحو استعادة الوحدة الوطنية، فقد جربناهم وخبرنا كذبهم واحتيالهم منذ الانقلاب الأسود وحتى قبل ذلك بفترة طويلة. أما المسلّمة الثانية فهي ثقة الفتحويين بقيادتهم وبالسيد الرئيس وتوجّهاته الثابتة لبذل كلِّ ما يستطيع في سبيل طيّ صفحة الانقسام كي يتفرغ شعبنا لمقاومة محاولات القفز فوق حقوقنا وتكريس الاحتلال لوطننا والحيلولة دون تحقيق ما توافقنا عليه من أهداف الإجماع الوطني المتمثلة بالعودة والحرية وإنجاز الاستقلال الوطني في دولة فلسطين وعاصمتها القدس.
كلّما اشتدّت من حولنا المخاطر، وكلّما ازدادت حلكة الظلام، علينا التحديق قليلاً في صور الشهداء.. فليس منّا من لا يستطيع فهم وصاياهم، وليس منا من يتنكّر لتلك الوصايا.
وارسو/بولندا
أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال
٢٦-٧-٢٠٢٠
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها