خاص مجلة "القدس" العدد 337 ايار 2017 

هيفاء داوود الأطرش

 

على مشارف الذكرى الخامسة للهجرة القسرية التي تعرَّضَ لها اللاجئون الفلسطينيون في سوريا، يعود شريط الذاكرة ليمرِّر أحداثاً قاسية في رؤوس أولئك القابعين في البلاد المجاورة للدولة السورية وفي دول الشتات الأوروبي ، والذين لم تتحسن أوضاعهم إلى الأفضل حتى هذه اللحظة، بل هي بين مراوحةٍ في المكان أحياناً، وتراجعٍ في أحيان كثيرةٍ أخرى، إذ تتقاذفهم النوايا الخبيثة الإقليمية والدولية ضمن التصريحات السياسية العنصرية الرافضة لهم، كونهم عبئاً ثقيلاً على الدول المضيفة ونخص هنا دول الجوار، لكن اللاجئين لا يزالون يدأبون ليجدوا البدائل التي تحمي شكل كيانهم ولو بطريقةٍ غير منطقية .

وبعد مرور تسعة وستين عاماً على احتلال فلسطين من قبل الصهاينة، نلاحظ أن معاناة اللاجئين الفلسطينيين تكبر وتزداد مع كل سنة تمر دون حل عادل لقضيتهم .

والمتمعن في تداعيات الأزمة السورية يجد أن الخسارة يتقاسمها الشعبان السوري والفلسطيني بما يمثلانه ، فالدولة السورية قد انهارت بنيتها التحتية تحت الضربات المتواصلة التي تقويها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الحقيقيون بالإضافة إلى المرتزقة المصطنعين حديثاً من تشكيلاتٍ مسلحة تزيد من الدمار في سوريا، وتتداعى معها المخيمات الفلسطينية المتناثرة على الجغرافيا السورية، انهياراً وحصاراً وجوعاً وضياعاً لاحلَّ له، بعدما كانت تنعم بالأمان الاجتماعي والاقتصادي المتميز تحت رعاية الدولة السورية .

لقد أتت قنبلة الحرب في سوريا لتشتت نحو 80% من اللاجئين الفلسطينيين داخلياً وخارجياً، ضمن مرحلة اتصفت بقساوتها مقارنة بما حصل إثر نكبة فلسطين، وكنا قد ذكرنا سابقاً عن الفارق الشاسع بين النكبتين عام 1948 و عام 2012 حيث تميزت المرحلة الأولى ببقاء شكل العشائر والعائلات، كونها انتقلت دفعةً واحدةً من المدن والقرى الفلسطينية التي تعرضت للمجازر والهجوم من قبل العصابات الصهيونية، إلى أراضي الطوق في تجمعاتٍ تحولت إلى مخيمات للاجئين ، إذ تكفلت بهم الأمم المتحدة عبر تشكيل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين؛ لكن المرحلة الحديثة التي تشكلت إثر الأزمة السورية والتي تطورت إلى صراعٍ دامٍ، تميزت بخروج الفلسطينيين إلى مناطق متفرقة بينما بقيت داخلية في الأراضي السورية ، وبين بلدان الجوار والدول الأوروبية والاسكندنافية ؛ وقد عانوا ما عانوه من ظروف الهجرة القسرية ، حيث  كانت الصدمة الكبرى لهم، بسبب الخسارة الكبرى التي لحقت بهم على كافة الصعد الحياتية الأساسية، التي طبعت حياتهم السابقة بالاستقرار، الذي قارب حد الاستقرار المعيشي لنسبة 60 % منهم؛ رغم التطمينات التي كانت تخرج عبر التصريحات الرسمية للدولة السورية مفادها أن المخيمات الفلسطينية ستبقى في منأى عما يجري في سوريا .

وإننا نلمس حقيقةً واقعة ، يضج صوتها عالياً في أوساط اللاجئين الفلسطينيين من سوريا ، وأينما وجدوا، أنهم على استعداد كامل للعيش على أراضي الدولة الفلسطينية التي سيعلن عنها ضمن أراضي الـ 67، إذ بعد كل ما آسوه عبر تلك السنين من التشرد وخاصةً في السنوات الخمس الأخيرة، قد أثقل كاهلهم، من عدم وقوف المعنيين مع قضيتهم من مؤسسات رسمية وغير رسمية عند حاجاتهم الهامة والأساسية التي من المفترض أن تـُقوِّي صمودهم في وجه صعوبات الحياة التي لم تراعها الدول المجاورة ولم تراع القانون الدولي الخاص بحقوق الانسان واللاجئين أثناء النزاعات والحروب .

لقد طرأت تغييرات جذرية على الفكر الفلسطيني اللاجئ ، والذي كان لا يرتضي بديلاً عن قريته أو مدينته التي هجر منها أجداده قسراً عام 1948، بعدما كانت ما نسبته 55% من الأصوات الفلسطينية المقيمة والقاطنة داخل الوطن وفي الشتات، بعد اتفاقيات أوسلو، ترفض أن تكون الدولة الفلسطينية ضمن حدود 67 فهي حتى ليست أدنى طموحاتهم الوطنية، بل لا تمثل وطنهم، إنما مسقط رأس أجدادهم هو وطنهم الحقيقي، وأن لابديل عن حق العودة إلى أراضي فلسطين التاريخية .

وبعد طول تلك السنين، استطاعت السياسات الاستعمارية المرسومة بدقة ، وحسب نوعية كل مرحلة يمر بها الشرق الأوسط والوطن العربي ، أن تتفرَّد في صياغة وتشكيل المرحلة الحالية، والتي تعددت فيها المخاضات، بين ولادة خدجٍ تؤثر بشكلٍ محدودٍ على المسار السياسي الفلسطيني والقضية الفلسطينية، إلى ولادة مبكرة أخرى تدير دفة القرار الفلسطيني حسب المتغيرات الدولية، إلى ولادة طبيعية تفرض شكل الآباء وشكل العلاقة التي تتذبذب بين الأبوة بالتبني والأبوة الحقيقية، حيث يبقى الأهل الحقيقيون لأولئك الفلسطينيين يفضلون الخيار الذي أحلاه مـُرُّ ، كي يحافظوا على ولدهم بأي شكل ٍ ولو أحرقته شمس الظلم لحظةً بلحظة .

إن المتحكمين بالمجتمع الدولي الحالي ينتهون مؤخراً من وضع اللمسات الأخيرة ليرفعوا الستار عن حجر أساس ٍ جديد ، لتقسيم ما أسمته كتب التاريخ بالوطن العربي من أجل تطبيق سايكس بيكو جديد ، حيث تمر الدول العربية في أصعب عصورها من الانحدار والانهيار، مما ينعكس على لب قضية العرب المركزية المفترضة، إذ لا مكان لها على الأجندات العربية إلا ما يراه المتحكمون في هذا العالم من حلٍ للقضية الفلسطينية، وتتمثل في القمم العربية التي تمر مرور ( الكرام ) على جثة الفلسطيني المعلقة بين السماء والأرض .

لذلك فإن الخطابات المتصاعدة هديراًمؤثراً، والمتمسك في حق العودة حتى آخر رمق ،  يستمر في المسار الرسمي الفلسطيني، لكنه لا يعكس الحقيقةً الوحيدة على أرض الواقع بين أوساط اللاجئين الفلسطينيين في المنافي ، خاصةً بعد تركهم يهيمون على وجه الأرض دون رشيدٍ أو هادٍ، فالقصص الدامية تفرخ رواياتٍ تصف قساوة ما يمرون به في ظل ضعف تطبيق برامج الطوارئ المقدمة من المنظمات الدولية الرسمية وكذلك غير الحكومية ، والتي لم تنفذ 15% منها ، والتي لم تسد 25% من احتياجات اللاجئين الفلسطينيين الهاربين من الحرب السورية ،وحتى الذين بقوا داخل الأراضي السورية ، الاحتياجات التي كانت من المفترض أن تحافظ على الحد الأدنى من الحياة البشرية والطبيعية لهم .

ولقد هاجر من استطاع الهروب سبيلاً ،وشقوا عرض البحار موتاً وعويلا ونداءً للحياة الكريمة ،  ووصل أول اللاجئين الذين كانوا بصيص أمل للباقين ممن لحقوا بهم، علـَّها تنقذ نفساً يائسةً وصلها بصيصٌ من الأمل المرير؛ وحال وصول اللاجئين الفلسطينيين إلى المنافي الأوروبية والذي بلغ عددهم حتى الآن قرابة 120 ألف لاجئ فلسطيني، توزعوا على ألمانيا والسويد والنمسا وهولندا والدانمارك وبلغاريا وروسيا ورومانيا وهنغاريا وماليزيا واستراليا وكندا والبرازيل وأخيرا الولايات المتحدة الأمريكية؛ فكانت أول الجروح هناك وأول الممرات الضيقة بالنسبة للاجئين هو توقيعهم، وهم يلهثون من أجل التقاط أنفاسهم التي كادت تقطعها ملوحة أمواج الغربة العنيدة، توقيعهم على طلب اللجوء الذي يقركل واحدٍ منهم أنه لاجئٌ بلا وطن .

لقد استطاع الشرق الأوسط الجديد أن يقحم فكرة اللجوء إلى آلاف الأميال ، في رؤوس الفلسطينيين الذين طالما حلموا بتقبيل تراب قراهم ومسقط رأسهم ، في أول ممارسة حياةٍ كريمةٍ كانت ستكون لو عادوا؛ وبالمقابل كانت مساحة التبرير لدى اللاجئين الفلسطينيين من سوريا وحتى الذين هربوا من الفلسطينيين المقيمين في لبنان ومن قطاع غزة ، تزداد وتكبر في كل لحظة يتنفسون بها هواء الغرب البارد، ويعبـِّرون عن انتمائهم الفلسطيني في وقفات تضامنية مع شعبهم الفلسطيني في الوطن وضد الإجراءات التعسفية للاحتلال الإسرائيلي ضد القدس والضفة الغربية وقطاع غزة  ويصرون بأنهم في نهاية المطاف سيعودون إلى أراضيهم الفلسطينية بجوازات سفرٍ ولو كانت أجنبية، ويعيشون هناك محققين أحلامهم السابقة، وإن قبولهم الحالي بالعودة إلى أراضي الدولة القادمة، وكذلك الأمر للاجئين في دول الجوار السوري، إنما هو طريقٌ جديدة ٌ يعودون من خلالها، ململمين شظايا ذكرياتهم بطريقةٍ ما، فرضتها حروب مسعورة أكبر منهم ومن عربانهم المتواطئين .

إن دم اللاجئين الفلسطينيين في المنافي لا يزال ينبض في عروقهم، وهم رصيدٌ من نوع ٍ جديدٍ يحافظ على شكلهم الداخلي ويطور مفهوم المقاومة الشعبية في هيئة لوبي فلسطيني ناشط متميز لصالح فلسطين، وريثما تعلن دولتها سيكون بمقدورها منحهم جواز سفر فلسطيني يعيد لون الكينونة الخاصة بهم .