خاص مجلة القدس العدد 337 ايار 2017 

بقلم: صقر أبو فخر

 

        ما هي الخلاصة النهائية من الممكن أن نستحلبها من زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السعودية، ومن تصريحاته العابرة في أثناء القمم الاحتفالية التي شغلت الرياض وعواصم دول الخليج العربي طوال ثلاثة أيام متواصلة بين 20/5/و22/5/2017؟ للوهلة الأولى تبدو تصريحات الرئيس مثل الخروب؛ يحتاج الواحد إلى طن منه كي يجني أوقية من الدبس. فقد باع ترامب الفلسطينيين كلاماً عائماً يصلح لأي مناسبة، وتحدث عن قرارات صعبة يجب على الفلسطينيين والاسرائيليين أن يتخذوها، وأنّ بالتصميم والتنازل المتبادل يمكن التوصل إلى صفقة. أي أنه يطالب الفلسطينيين بالتنازلات واتخاذ القرارات الصعبة في هذا الشأن. ومن البدهي الاستنتاج أن تلك التنازلات التي يطالب بها ترامب (نيابة عن نتنياهو) إنما تشمل القدس والاستيطان والاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، وهو من المحال وقد تجنب الرئيس الأميركي الكلام على حل الدولتين وحق تقرير المصير للفلسطينيين، وعلى ضرورة وقف الاستيطان، وعلى نقل السفارة الأميركية في تل أبيب إلى القدس. ومع ذلك لم يزر رام الله، وهي العاصمة الموقتة لدولة فلسطين، ولم يزر كنيسة المهد في بيت لحم بذريعة وجود خيمة لذوي الأسرى المضربين عن الطعام في السجون الاسرائيلية. ألم يتساءل لماذا يضرب هؤلاء عن الطعام، ولماذا هم موجودون في السجن.

          في الجانب الآخر، باع ترامب الاسرائيليين كلاماً سياسياً محدداً حين تعهد لهم بأن أميركا لن تسمح لإيران بامتلاك قوة نووية. وحقيقة الحال أن إيران لا تسعى إلى امتلاك سلاح نووي، بل لديها مشروع نووي للأغراض المدنية. غير أن قراءة هذا التصريح لا يندرج في سياق تفسير الاتفاق الإيراني الدولي في شأن مشروعها النووي، بل في سياق المواجهة المقبلة مع إيران وسياستها الخارجية، خصوصاً في سورية واليمن ودول الجوار العربي. وفوق ذلك باع ترامب نتنياهو عبارات لماحة حين أبدى إعجابه بجمال مدينة القدس وبميراثها وبالروابط التاريخية التي تشد "الشعب اليهودي" إليها منذ آلاف السنين، والتي تعود – بحسب كلام ترامب – إلى أيام الملك داود الذي تزين نجمته العلم الاسرائيلي. وقال ترامب في أثناء مراسم استقباله في مطار تل أبيب: " يسرني أن أكون في اسرائيل الوطن القومي للشعب اليهودي". ولم يتنبه أحد إلى أن الكنيست كان قد صادق في 10/5/2017، أي قبل اثني عشر يوماً فقط، على قانون أساس ( أي على قانون له قوة الدستور) على وصف اسرائيل بأنها " الدولة القومية للشعب اليهودي"، وهذا الكلام هو التزام سياسي صريح بـِ "يهودية دولة اسرائيل".

الجوز الفارغ

        لا يمكن العثور على أي موقف سياسي حاسم في جميع الخطب التي ألقاها دونالد ترامب في الرياض وفي فلسطين المحتلة غير إصراره على إقامة تحالف عربي – اسرائيلي لمحاربة "الارهاب والتطرف". والإرهاب والتطرف يعني، في قاموس ترامب، حزب الله وحركة حماس وإيران، وهذا الموقف أمر شديد الخطر حقاً، فلا تستطيع السلطة الوطنية أو منظمة التحرير الفلسطينية مجاراته في هذا الموقف حين يقترب موعد  المفاوضات المباشرة مجدداً، مع أن السعودية خطت خطوة نافرة حين اعتبرت حزب الله منظمة إرهابية، وهو ما أثلج قلب الساسة الاسرائيليين. وكل ما تقطّر من كلام ترامب في ختام زيارته بيت لحم، أو في خلال خطبته في "متحف اسرائيل"، هو إبداء عزمه على العمل من أجل التوصل إلى تسوية بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وهذا هو بيع الجوز الفارغ بالضبط.

        ما الجديد الذي سمعه الرئيس محمود عباس من ترامب حين التقيا في بيت لحم في 23/5/2017؟ حقيقة الأمر أن الرئيس محمود عباس لم يسمع أي جديد يُضاف إلى ما سمعه من ترامب في أثناء لقائهما في البيت الأبيض في 3/5/2017، أي قبل عشرين يوماً فقط. ويدرك الرئيس محمود عباس أن لا حل للمسألة الفلسطينية في هذه الحقبة العاصفة والمتقلبة. لكنه يدرك، في  الوقت نفسه، أنه في وضع لا يستطيع أن يبقى واقفاً في مكانه، وعليه أن يسعى في جميع الاتجاهات لتأمين بقاء شعبه في أرضه والحفاظ على هويته، في وجه الرياح الهوج. وفي هذا الميدان بات من المؤكد أن الحصافة السياسية تقتضي عدم الركون إلى الإدارات الأميركية ووعودها، خصوصاً إدارة الرئيس ترامب. وعلى سبيل المثال، فإن إدارة ترامب نفسها قطعة عهوداً موثقة لتركيا في شأن الأكراد، ثم عادت وقدمت أسلحة لأنصار حزب العمال الكردستاني المعادي للنظام السياسي التركي، والمصنف على قائمة الإرهاب الأميركية. وعلى الأرجح أن ترامب وفريقه المؤلف من صهره اليهودي جاريد كوشنر ودايفيد فريدمان سفيره في اسرائيل، وهو يهودي أيضاً وحبسون غرينيلا المبعوث المتوقع إلى فلسطين، وهو في الوقت نفسه المحامي العقاري السابق لترامب، سيدعمون اسرائيل بشكل غير محدود، وسيستمرون في إنكار حقوق الشعب الفلسطيني. وأقصى ما يمكن أن تفعله إدارة ترامب في المرحلة المقبلة هو تأليف فريق أميركي من الثلاثة المذكرين أعلاه وغيرهم لإعادة الحياة إلى المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وبدء مسار جديد ومتجدد نحو التسوية، في الوقت الذي لا يعتبر فيه ترامب القضية الفلسطينية إحدى أولوياته الملحة. وأكثر ما نخشاه هو أن تسعى إدارة ترامب إلى سلام اقليمي – اقتصادي بين إسرائيل ودول شبه الجزيرة العربية التي ستُضاف إلى مصر والأردن، الأمر الذي سيجعل الفلسطينيين وحدهم على طاولة المفاوضات، أو في ميادين المواجهة اليومية، وسيجعل قضية فلسطين مهمشة ومغيبة عن جدول الأعمال السياسي لدول العالم. وقد كان لافتاً، ولو بصورة رمزية، أن ترامب دشن يوم 22/5/2017 أول رحلة جوية مباشرة بين الرياض وتل أبيب، ما جعل بنيامين نتنياهو يلتقط هذا الحدث ليعلن في خطابه الترحيبي بترامب، تطلعه إلى الشروع في رحلات جوية مباشرة بين المطارين.

 خواء السياسة

        للأسف الشديد فإن الدول العربية، وبالتحديد السعودية وبعض حلفائها، لا يفقه القائمون عليها وأولياء أمورها البدهيات في إدارة المصالح العليا. فقد اشتروا أسلحة بمئة وعشرة مليارات دولار، وهذا المبلغ سيتضاعف ثلاث مرات جراء تكلفة التدريب والصيانة وقطع الغيار والاستيعاب في المخازن... الـخ. وعقدوا اتفاقات تجارية بنحو 285 مليار دولار، من دون أن ينتزعوا من ترامب موقفاً واضحاً من قضية الشعب الفلسطيني يعزز ادعاءاتهم ومزاعمهم في دعم هذا الشعب الذي يواجه الاحتلال والاستيطان وحيداً. ومن حقائق ما جرى أن السلاح الأميركي المرتقب للسعودية لن يشكل أي خطر، ولو محتمل، على إسرائيل، لأنه بكل بساطة سيكون موجهاً ضد إيران وحلفائها، وسيكون مشروطاً بعدم انتقاله إلى أي جهة معادية لإسرائيل، ولن تكون صواريخه قادرة على الوصول إلى أهداف إسرائيلية. ولمزيد من طمأنة إسرائيل، ستحصل الأخيرة على أسلحة متطورة جداً بذريعة المحافظة على تفوقها العسكري إزاء محيطها العربي. ومهما يكن الأمر، فما دامت السعودية وحلفاؤها لم يشترطوا أي شرط على أميركا لقاء ما دفعوه من أموال خرافية، ولم يحاولوا أن ينتزعوا أي تعهد، ولو من باب الوعد، في شأن قضية فلسطين، فلماذا يهتم الأميركيون بالضغط على إسرائيل للتوصل إلى اتفاق الحد الأدنى مع الفلسطينيين خصوصاً أن لا أحد طلب منهم ذلك؟

        لقد اشترى العرب وعوداً خلبية في أول عهد باراك اوباما، لا سيما في خطابه المشهور في جامعة القاهرة. سيشترن أوهاماً كثيرة في عهد ترامب ما دام الخوف من إيران هو الذي يسلق أدمغتهم ويشل القدرة على التفكير الصحيح في شأن مصالحهم ومستقبل دولهم. وسيبيعهم ترامب جوزاً فارغاً. فما داموا يريدون مواجهة إيران فليضع لهم ترامب هذه البضاعة، وسيدعم، لهذه الغاية، تأسيس حلف إسلامي سني لمواجهة إيران الشيعية، وسيبتز ثرواتهم أو ما بقي منها لكن هذه السياسة ليست قابلة للتحقق على الإطلاق، فالتشقق بين دول الخليج بدأ يظهر فور مغادرة ترامب قصور الرياض الباذخة: السعودية والامارات والبحرين في جانب، وقطر في جانب، وعُمان والكويت في جانب ثالث.

        أعاد الملك سلمان بن عبدالعزيز التذكير بمبادرة السلام العربية التي أُعلنت في بيروت في سنة 2002، أي قبل خسمة عشر عاماً، لكن ذلك التذكير لم يصل إلى أسماع ترامب البتة. ومن مفارقات زماننا أن العرب كانوا في حالة حرب مع اسرائيل، ثم قدموا مبادرة سلام لإسرائيل إياها، فرفضتها. والموقف الطبيعي في هذه الحال أن يعود العرب إلى حالة الحرب، أي إلى ما كانوا عليه قبل استهانة إسرائيل بهم. لكن العرب اليوم، ودول شبه الجزيرة العربية بالدرجة الأولى، يريدون السلام مع إسرائيل بسرعة وبلا أي ثمن أليست غريبة ومستغربة هذه المهانة؟