النكبة تنوء بنا، داخل كل بيت تبني لها صروحاً، وفي كل وردة لها موطن ضائع، في كل شجرة يختبئ الهدامون، وفي كل قلب شرخة يأس، وفي كل طريق صخرة تسدّ شريان القلب، وفي كل حديث نكبة، وفي كل أمل نكبة تشق حجر الكهرمان بسطورها السيّالة، النكبة البوم صور نتصفحه طوال الوقت.
لم تعد سنوات النكبة تحيط بكل شيء في كتاب الخلود، وجه الوطن تغيّر ودروبه الرائعة تلاشت منذ انفجر الألم في كل مكان، سرق الزمن منّا السعادة وقذف بنا طوال هذه السنين الى جزر الرحيل المنسيّة في دُكْنة الليالي وعذابات الألم، طارت عصافيرنا المقهورة عقوداً الى الوراء، تغيّرت الاحوال، وتبعثرت أحجار المنازل فوق الاراضي المصادرة، تساقطت أوراق الرّمان واللّوز والتّين على تراب الوطن ولم تلتقطها أصابع الفلاح المثلومة بأسرار الأرض وأقفال العمر، لا أحب الغوص في كتب المنكوبين، تكفي مرآتي المكسورة في عقر ذكرياتي لأتصفح فيها ما تسلل من رحلتنا الطويلة في وطن يحفر أغوار الصمت، علني أظفر ببعض الراحة في مكونات الجسد المنهك من رحلة السنين وغزوات الشّيب وروايات الصقيع وعبث الاقدار، كثيرة هي الرسائل المستخلصة من كتاب النكبة المفتوح، لكن كتب الحياة المكدّسة على رفوف السجون لم ترفع عن شعبي الجدران السميكة الضاغطة على أنفاسه، ولم تخلخل أساسات غيابه عن بلاده المفروضة على آدميته بقسوة .
خطوة الى الامام، خطوة بمذاق اشتياق الى العودة. تغيّر اللاجئون وما تغيّر الحنين، صار الاولاد آباء، فلسطين أصابتنا بداء الحنين من كل الجهات، وبمرض العودة الى الديار، فعلى أي طريق نعود؟ أجتاز خط المخيم، لا خطوط خضراء هنا، فلسطين صارت منفى، عن أي نكبة نكتب وكل النكبات هنا؟! نحن أبناء النكبة، هم أبناء نكسة، هؤلاء ضحايا تهجير قسري. بعد مرور الستينية واقتراب السبعينية لا حدود لدولة تضم الضحايا، العودة حق مقدس والحق لا يتجزأ، الخطر من حق عودة رمزية واقتراح خطوط خضراء وحمراء هنا وهناك لتضييق المجال وتضييق فلسطين في قاموس المتكلمين عنها. هل فلسطين رام الله أم رام الله في فلسطين؟ أحنّ الى فلسطين كما أحنّ لرام الله، المخيمات على خط الدمار، الشعب ضحية، لا جسر للعبور، كل البوابات مغلقة، لماذا يسمّون الخط الاسود بالاخضر؟ عن أي وطن نتحدث بعد أن تراكمت السنون وهبتّ رياح التهجير على الشعب المقهور، حتى أصبحت حبة القمح بقطرة دم، وتكسّرت أجنحة الطيور، ولم تشرق شمس الحرية من مغارة الليل؟ في أي طابق أرضي تقبع فلسطين لننزل اليها؟ في أي مغارة اعتقلوا الدولة ومنعوها من الهواء؟ يا وطن الوقت الضائع والقدر الاعمى، ومقهى اللاعبين والقوى الكبرى، عن أي نكبة تحدثني أشرعة اللاجئين؟ في الذكرى السعيدة نكتب يا وطني الصامد، يا قلب فتاة تقفز بين الازهار الصفراء والحمراء والبيضاء في ملعب الربيع، يا وطني المتعب من العابثين بقيثارته في شتاء النزاعات المؤلمة، شكراً لمن أبقى على التاريخ في عصوره الحجرية، ومنعنا من الحرية وكمّم أفواهنا، وساند الارهاب والاجرام لقمعنا؟ شكراً لهؤلاء الناس الذين يفرحون بأعمالهم مخالفين ضمائرهم؟ شكراً لانهم تركوا لنا نكبة نحييها عاماً بعد عام، نتذكر الآمال والاوجاع والدماء ونزرع الاحلام في النفوس، ونرفع راية النضال الى النجوم، ارضاء للأرض الجريحة بمشقة وبذل ووطنية متأججة لتكون الدولة جزءاً من الوطن، وان غلت التضحيات فهويتنا ثروتنا.