تكاد تتماهى ازدواجية الخطاب الأميركي مع عوالم مسرح اللامعقول!

الكلام وعكسه في خطاب واحد، فدعوات متواترة لإدخال المساعدات الإنسانية بكميات كافية ومستدامة لإنقاذ أهالي غزة من الموت جوعاً، وتمديد بالوقت نفسه للعدوان الذي يزهق أرواحهم!
مشاهد الجوعى الذين يتعرضون للتقتيل العمدي، أثناء انتظارهم للحصول على مساعدات غذائية تبقيهم على قيد الحياة، تطرح تساؤلاً جوهرياً إذا ما كانت أي دعايات أميركية عن القيم الإنسانية قابلة للتصديق!
إذا لم يمت مئات الآلاف من الفلسطينيين بالقصف المتواصل، فإنهم قد يلقون المصير نفسه بالتجويع المنهجي المقصود.
باليقين، فإن الإدارة الأميركية تتحمل المسؤولية الأولى عما يحدث للفلسطينيين من تنكيل تجاوز كل كابوس متخيل أو غير متخيل.
مددت للعدوان الهمجي على غزة ومنحته غطاء سياسياً وإستراتيجياً وعسكرياً كاملاً حتى ينجز هدفَيه المعلنَين، اجتثاث حركات المقاومة الفلسطينية واستعادة الأسرى والرهائن بلا تكاليف سياسية باهظة.


لمرات عديدة منعت بحق النقض استصدار أي قرارات من مجلس الأمن الدولي بوقف الحرب، دون أن تتوقف عن دعوة القوات الإسرائيلية لمراعاة القانون الدولي الإنساني في حماية حياة المدنيين.
طوال الوقت تدعو لإدخال المساعدات الإنسانية دون نجاح يذكر.
وأخيراً دعت في خطاب الاتحاد، الذي ألقاه الرئيس جو بايدن أمام مجلسَي الكونغرس، لإنشاء رصيف بحري قبالة سواحل غزة لإنجاز هذه المهمة الإنسانية!
لم يكن الدعم الإسرائيلي المعلن لذلك المشروع كلاماً في فراغ الإستراتيجيات.
أول ما يستلفت النظر أن إنشاءه وتشغيله قد يستغرق نحو ستة أسابيع حسب التقديرات الأميركية.
المعنى أنه لا حديث بأي مدى منظور عن وقف إطلاق النار، أو تحسين الوضع الإنساني بضخ مساعدات كافية عبر المنافذ البرية.
ربما يمتد المعنى إلى تخفيض أي رهانات على تسوية ما عبر المفاوضات غير المباشرة بين «حماس» وإسرائيل.


بحسب الحيثيات المعلنة، فإن المشروع الأميركي يستهدف رفع نسبة المساعدات الإنسانية، أو أن تصل مباشرة إلى الجوعى من المدنيين لا إلى «حماس»، وبالتنسيق الكامل مع السلطات الإسرائيلية.
بنظر منظمات الأمم المتحدة: «لا بديل عن الممرات البرية»، قاصدة أن معبر رفح الحدودي المصري أسهل وأسرع إذا ما أجبرت الولايات المتحدة إسرائيل على عدم استهدافه بالقصف، أو التعسف المفرط في إجراءات دخول المساعدات».
بتعبير وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون: «لا بديل عن الممر البري»، قاصداً معبر رفح بالذات.
بتقدير «واشنطن بوست»، فإن «الممر البحري لا يكفي»، توافق على مشروعه، لكنها تشكك في قدرته على الوفاء بالمهمة الإنسانية المفترضة.
أخطر ما في ذلك المشروع: تجريد مصر من معبر رفح وقيمته الإستراتيجية.
وتجريد غزة في الوقت نفسه من الرئة العربية الوحيدة للحركة والتنقل.
هذا يستدعى التنبه البالغ والتصحيح الضروري لأي أخطاء وخطايا ارتكبت في إدارة ذلك المعبر بعد توقيع اتفاقيتَي كامب ديفيد.
باسم الإنسانية مرة أخرى يجري التواطؤ على أدوار وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا»؛ بذريعة أن ذلك الرصيف البحري سوف يوفر خدماتها دون حاجة إليها!


هذا محض ادعاء لا أساس له.
استهداف «الأونروا» بادعاءات غير ثابتة عن علاقة بعض موظفيها بـ»حماس»، وفرض حصار دولي على تمويلها، قصده تفكيكها لإحكام الحصار مستقبلاً على القطاع في خدمات لا غنى عنها كالصحة والتعليم والتشغيل.
بتعبير وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، فإن الرصيف البحري يساعد على انهيار «حماس» قاصداً التركيع النهائي للفلسطينيين.
هكذا بكل وضوح فإن ذلك المشروع هو عمل متوافق عليه بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي.
إنهما يعملان تحت أفق إستراتيجي واحد رغم أي تناقضات بين إدارة بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو.
قد ترى الإدارة الأميركية الحالية أنه يفتقد في اللحظة الحالية القدرة على القيادة.


بالمقابل فهو يصعد ضدها لهجة الخطاب.
لكن ذلك لا يمنع التوافق على الأهداف العليا للحرب، وعلى رأسها التهجير القسري أو الطوعي للفلسطينيين بعدما تصبح حياتهم شبه مستحيلة في القطاع المحطم، التي تؤكد التقارير الدولية أن (80%) من بيوته هدمت بالكامل، وأن خسائره المادية قد تتجاوز (30) مليار دولار.
القضية الحقيقية ليست «التوطين في سيناء» بقدر ما هي إخلاء غزة من أهلها وتشتيتهم في دول أخرى، عربية وغير عربية.
لذلك الرصيف دور وظيفي مقصود في التهجير الطوعي.
في بداية الحرب وجد اليمين الإسرائيلي المتطرف في الدعم الأميركي شبه المطلق فرصة للتهجير القسري من غزة إلى سيناء، وفرصة أخرى لتهجير مماثل من الضفة الغربية إلى الأردن.
اصطدم مشروع التهجير القسري بموقف مصري وأردني وفلسطيني وعربي شبه موحد.
تراجع مؤقتاً، لكنه لا يزال ماثلاً بصيغ جديدة طوعية هذه المرة يساعد عليها مشروع الرصيف البحري.
قد يؤسس الرصيف البحري لتواجد أميركي عسكري مباشر بهدف السيطرة على مخزون الغاز، التي تؤكد التقارير الدولية توافرها قرب شواطئ غزة.


إنه الغاز عصب الحياة الحديثة، التي تأكدت قيمته الفائقة في حرب أوكرانيا.
تنفي إدارة بايدن أنها بصدد تمركز أي قوات عسكرية في غزة.
ربما أرادت أن تطمئن الرأي العام الأميركي قبيل الانتخابات الرئاسية، التي قد تقرر مصير بايدن في البيت الأبيض، أنه لن يكون هناك تورط عسكري مباشر في غزة.
وربما أرادت أن تطمئن بالوقت نفسه «الحليف الإسرائيلي»، أنها ليست بصدد عرقلة أي خطط عسكرية مزمعة في رفح، التي يراها نتنياهو ضرورية لحسم الحرب.
يستلفت النظر أن مشروع الرصيف البحري طرح مباشرة إثر زيارة الوزير في مجلس الحرب الإسرائيلي بيني غانتس لواشنطن.
رغم الخلافات المعلنة فإنهما يتبنيان أهداف الحرب نفسها، المعلنة وغير المعلنة.
يحاول بايدن بخطابه المزدوج أن يحسن صورته داخل الحزب الديمقراطي كرجل يتبنى خطاباً إنسانياً، دون أن يتوقف عن توفير القنابل والذخائر والدعم المالي والاستخباراتي للعدوان على غزة.
لا يصلح ذلك الخطاب لتحسين صورة أو لإضفاء هيبة.
إنه تواطؤ باسم الإنسانية على غزة ومستقبلها.