مرّت عقود وأنا أستمع إلى تقريع العدوّ ونصائح الصّديق حتّى وصلت إلى قناعة بأنّنا شعب سبّاقٌ في إهدار الفرص، ولو كانت هناك لعبة أولمبية لنلنا الميدالية الذّهبيّة، فقد رفضنا قرار التّقسيم وأهدينا الحركة الصّهيونيّة جائزة كبيرة وأظهرناها مسالمة مطيعة فنالت دولة مستقلّة وحصلنا نحن على النّكبة والخيام الصّفراء.

وعرض علينا يغئال ألون بعد النّكبة الثّانية دويلة فقلنا ما أرخص من الحبر إلا الورق وما عليه إلا أن يحمل خرائطه ويذهب إلى جينوسار فسمع نصيحتنا وذهب إلى الكيبوتس وبقينا مع الاحتلال، فنحن شعب اعتاد على الاحتلال منذ الصّليبيّين والمملوكيّين والعثمانيّين والإنجليز حتّى الصّهاينة. وقدّم لنا مناحم بيغن (وهو رجل إنسانيّ جدًّا لم يقتل عربيًّا في حياته وأرجوكم ألا تصدّقوا ما جرى في دير ياسين فهذا خيال شرقيّ) مكرمة بإنشاء أوتونوميا حيروتيّة مسؤولة عن النّظافة والصّحة والطّعام فرفضنا مكرمته وقلنا أيريدنا أن نفطر على بصلة بعد أن صمنا أعوامًا؟ واقترح علينا شارون ضمّ نصف الضفة إلى المملكة الأردنيّة الهاشميّة لأنّه يعرف أنّنا منذ قرن ونحن نهتف "أمّة عربيّة واحدة ودولة عربيّة واحدة" فكيف لا نتّحد مع مملكة ملكها من سلالة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ولكنّنا نحن الذين رفضنا نصف البرتقالة في العام 48 كيف نرضى بحزّ واحد منها؟

وكان الجنرال ايهود براك عبقريًّا حينما اقترح مشروعه الذي يعطينا 90 بالمائة "فوق الأرض" فرفضه الرّئيس عرفات فاكتشف براك اكتشافًا عبقريًّا يفوق اكتشاف كولمبوس عندما قال: لا يوجد شريك! فهل كان علينا أن نبصم على ورق أبيض ولا نضيّع الفرصة ولا نناقش "فوق الأرض" أو "تحت الأرض"!؟

وجاء ايهود الثّاني الذي وعد أن يعطينا الكثير الكثير فتركناه يستقيل من رئاسة الحكومة. نحن المسؤولون أولًا وأخيرًا عن استقالته. لماذا أهدرنا الفرصة ولم نهرول وراءه حتّى باب السّجن؟

نشر الصّحفيّ أوري ماراق تقريرًا في ملحق "هآرتس" في 17 آب الجاري ولعلّ الرّجل عربيّ واسمه الحقيقيّ نوري مرقة وَعَبرَنَه احترامًا لقانون القوميّة. وفي هذا التّقرير تطرح علينا ثلّة فذّة من أبناء عمومتنا حلولًا جديدة فيقترح د. مارتن شرمان ترانسفير إلى أندونيسيا وهذا أفضل من ترانسفير إلى غابات أفريقيا. وأمًا د. مردخاي كيدار فيقترح إقامة دولة في غزّة وسبع إمارات من الخليل حتّى جنين ونسي أن يتبرّع بجلابيّات للأمراء في حين أعلن الوزير ألكين "لا شبر أرض واحد" وأمّا الوزير بينت فسوف يسمح للفلسطينيّ بعد ضم الضفة أن يسافر في الباص من جنين إلى رام الله، وقد أعجبني اقتراحه السّخيّ وعلينا ألا نفوّت الفرصة. سوّاقون للباصات يا لها من هديّة. وذكّرني هذا الاقتراح بصديقي أبي إبراهيم الذي سال طفله في سنوات السّبعين من القرن الماضي: ماذا تحبّ أن تكون حينما تكبر؟ فأجاب الطّفل: يهوديّا. فسأله الأب: لماذا يا ولد؟ فردّ عليه: كي أكون سائق باص!

والله يا جماعة إنّها مهنة مش قليلة، وتساوي مائة ألف شهيد ومليون سجين دون أن نتهوّد!! يللا يا أسطه!