الوطنية الفلسطينية المستندة إلى العقيدة والارادة هي التي فجَّرت الطاقات الثورية، وهي التي دفعت عشرات الآلاف لتنفيذ قرار تحدي الاحتلال، وعدم التردد في دفع الأثمان الباهظة، من أجل أن يبقى يوم الأرض وبعد مرور اثنين وأربعين عاماً حياً فينا، في ذاكرتنا، في وجدان شعبنا، وفي أعماق وعي أجيالنا الناشئة. عشرات الآلاف من كل أطياف وشرائح وتكوينات الشعب الفلسطيني لبوا نداء الوطن الجريح، والسليب، والأسير، وأخذوا على عاتقهم أن تبقى نار التحدي مشتعلة حتى يوم النكبة، الذي سيكون بإذن الله هو يوم العودة إن آجلاً وإن عاجلاً، لأننا لن نرضى بعد مرور سبعين عاماً، ونحن نتجرَّعُ مرارة النكبة، أن نبقى في مستنقع اللجوء والتشرد، والضياع. سنثبت للجميع وخاصة ترامب معبود الصهاينة وأعداء الانسانية، بأننا قادرون على صناعة تاريخنا، ورسم معالم مستقبلنا، واستعادة حرية واستقلال وسيادة وطننا.
إنَّ خروج عشرات الآلاف من أهالي قطاع غزة شيباً وشباناً، نساءً ورجالاً وأطفالاً أربك الكيان الصهيوني الذي يمتلك في مستودعاته القنابل الذرية والنووية، والصواريخ على أنواعها، وأحدث أنواع الطائرات، والدبابات العملاقة. قادة العدو الصهيوني المتعطشون لارتكاب المجازر بحق المدنيين، والذين يعشقون هدم وتدمير الأحياء في محافظات غزة، يقفون اليوم مذهولين، وممتلئين بالأحقاد، والعنصرية، وتعاليم النازية، يقفون مرعوبين وهم يرون أمامهم على أطراف قطاع غزة آلافاً مؤلفة من أبناء فلسطين المسلوبة من أهلها، ومن شعبها صاحب الجذور التاريخية الكنعانية، واليبوسية، والعربية في هذه الارض المباركة. وأجمل ما في هذا المشهد أن علم فلسطين، علم الوحدة الوطنية، علم الاجماع الشعبي، علم التحدي والعنفوان كان مرفوعاً يرفرف على تلال ومشارف القطاع وكأنه يقول ليافا، والقدس، وبئر السبع والخليل: نحن قادمون، والنصر قريب.
أكثر ما أزعج الجانب الاسرائيلي أن هذه الحشود الشعبية لم تحمل البنادق والرصاص، وأنها كانت في قمة الانضباط لتعليمات قادة هذا التحرك الجماهيري، الذين أكدوا أن هذا الحراك سيكون سلمياً، وهذا ما أغاظ قيادة العدو الاسرائيلي التي كانت تبحث عن سبب ولو بسيط لفتح النيران، وحصد أكبر عدد من الشهداء والجرحى، لكنهم فشلوا لأن هذا الحلم الذي يتمنونه لن يتحقق. فالجماهير التزمت بتوجيهات الرئيس أبو مازن قائد الشعب الفلسطيني، ورئيس دولة فلسطين، الذي كان يؤكد دائماً بأنَّ مقاومتنا للاحتلال هي مقاومة شعبية سلمية، علماً أن الشرعية الدولية أتاحت لنا حق ممارسة كل أشكال المقاومة، ولكن الواقع القائم، وطبيعة الأوضاع المحيطة بنا دولياً واقليمياً ومحلياً ترجِّح شكلاً على آخر من أشكال المقاومة، وذلك لأن المقاومة وسيلة لتحقيق هدف أساسي وهو التحرير والاستقلال. وكل شعب اختار ما يناسبه من وسائل المقاومة.
ونحن اليوم بمقاومتنا الشعبية السلمية إلى حدٍّ ما استطعنا أن نجمِّد الخيارات العسكرية عند العدو الصهيوني، ونحن نريد أن نمنعه من شن عدوان جديد على القطاع، وأن لا نسمح بإعطائه أي مبرر لتحقيق رغبته بقتل أكبر عدد من أبناء شعبنا، وأطفالنا في إطار سياسة الإبادة البشرية.
إنَّ التحدي الأكبر اليوم هو المحافظة على الطابع الشعبي الوطني السلمي في المواجهات، ومنع أية تجاوزات، أو خروقات، وعدم العسكرة هو المدخل لمضاعفة الحشود الجماهيرية، والفعاليات الوطنية اليومية، واحترام إرادة هذه الحشود، وكبح جماح الغطرسة الاسرائيلية العسكرية.
إنَّ الإصرار الاسرائيلي على إطلاق النار على المتظاهرين المتجمعين قريباً من التحصينات العسكرية، والذي أدى إلى ارتقاء حوالي سبعة عشر شهيداً في اليوم الأول وما يزيد على ألف وخمسماية جريح، لم يؤثر إطلاقاً على القرار الوطني، ولم ينجر المجموع الفلسطيني إلى تبادل إطلاق النار، وإنما كان عدم الرد على ذلك هو الرد الأقوى، فالعالمُ كله أدان واستنكر هذه الجريمة، وهذه الجريمة ما زالت تأثيراتها تتفاعل في مجلس الأمن، والجمعية العمومية، وفي دوائر الجامعة العربية، وكافة أرجاء المعمورة، بما في ذلك المجتمع الاسرائيلي نفسه، حيث بدأت أصوات من داخل هذا المجتمع تبرز وتعبِّر عن احتجاجها على سياسات اليمين الاسرائيلي، وتبدي مخاوفها على مستقبل المجتمع الاسرائيلي بسبب السياسات الحمقاء، والحاقدة.
وقد لفت انتباهي ما كتبه الصحفي الاسرائيلي أوري أفنيري في صحيفة هآرتس بتاريخ 4/4/2018، وذلك رداً على ما حصل في اليوم الأول للاحتجاج في غزة وإطلاق النار على المدنيين:
"قبل أسبوع من ذلك سُئلت كيف سترد حكومة إسرائيل على حرب غير عنيفة. وأجبت "بالنار الحية". لا يوجد لدى حكومة إسرائيل أي رد آخر على مقاومة غير عنيفة. الحكومة ستحاول تحويل المقاومة غير العنيفة إلى مقاومة عنيفة، لأنه على العنف يوجد لديها رد: عنف مضاعف بأضعاف. هذا ما كان في بداية الانتفاضة الثانية التي بدأت بشكل غير عنيف. الجيش الاسرائيلي قام بإطلاق النار وفجأة أصبحت المقاومة عنيفة".
كما أن الصحفي في إذاعة الجيش الاسرائيلي "كوبي ميدان" يقول صراحة حول سقوط شهداء في مسيرة العودة: "أنا أشعر بالخجل من أن أكون إسرائيلياً".
ولا شك أن ما جرى في الجمعة الثانية (جمعة الكاوتشوك) حيث تم إشعال مئات الإطارات المطاطية، واندلعت سُحب الدخان الداكنة السوداء، وساقتها الرياحُ المباركة باتجاه جبهة الأعداء، وأعمت عيونهم وقلوبهم، وقاموا بإطلاق النار على الشبان والمدنيين عندما أدركوا أن الشعب الفلسطيني مبدع وخلاَّق، وقادر على التحدي. ورغم إرتقاء حوالي عشرة شهداء في الجمعة الثانية، وما يزيد على ألف جريح بالرصاص المعدني، إلاّ أن أهلنا في قطاع غزة رغم ظروفهم الصعبة سجَّلوا انتصاراً تاريخياً أذهل العالم الذي وقف مشدوهاً أمام هذه المقاومة الشعبية السلمية المتواصلة تحت ظلال علم فلسطين.
إن انتفاضة يوم الأرض التي ما زالت مشتعلة، والتي امتدت من داخل الخط الأخضر إلى الضفة الغربية في كل أرجائها ومدنها ومحافظاتها الشمالية، وأيضاً في المحافظات الجنوبية التي أوقدت نار التحدي على أطرافها، واحتشد عشرات الآلاف حيث زرعوا الرعبَ في قلوب المحتلين، وأثبتوا أنهم طلاب شهادة وانتصار. وبذلك تمكنت هذه الجموع بقياداتها أن تعطِّل القرار الاسرائيلي بشن حرب جديدة على قطاع غزة يؤدي إلى تدمير الأحياء، وقتل وجرح آلاف المدنيين من أهلنا كما فعلوا في الحروب السابقة. وأصبح الكيان الصهيوني اليوم وفي ظل ما يجري متهماً بالاجرام، ومطلوباً للعدالة، وللمحكمة الجنائية الدولية، وأصبح عملياً هو العدو الأول للسلام على مرأى ومسمع كل شعوب وأمم الأرض.
إنَّ ما تشهده الأراضي الفلسطينية من العنفوان الفلسطيني في ذكرى يوم الارض، وخاصة في القطاع، أكد أن قطاع غزة منذ النكبة وقبلها لن يكون إلاَّ ساحةً للعمل الوطني الفلسطيني، تعيش فيه قواه المنتمية لفلسطين وعروبتها، ومشروعها الوطني، مشروع منظمة التحرير الفلسطينية من خلال الشراكة الوطنية والسياسية التي ميَّزت قطاع غزة تاريخياً، القطاع الذي يرفض أن يكون مزرعةً لأحد، أو أسيراً لدى طرف، فهو دائماً ينشد الحرية، والاستقلال.
إنَّ تعزيز انتفاضة يوم الأرض المتواصلة، والتي ستلتحم بذكرى النكبة في الخامس عشر من أيار، يتطلب الاستقواء بعدة عوامل جوهرية:
أولاً: أن تعمل كافة الأطراف الفلسطينية، وخاصة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، على توفير كل عوامل وفرص نجاح عقد المجلس الوطني الفلسطيني، الذي تمَّ تحديد موعد عقده في 30/4/2018 في أرض الوطن. وأن يسعى الجميع من خلال اجتماعات اللجنة التحضيرية لتقريب وجهات النظر، وحلِّ كافة الإشكاليات. ومهما كانت النقاط الخلافية، فإنها تبقى صغيرة أمام ما تتعرض له منظمة التحرير الفلسطينية بكل مكوناتها من تهديدات تستهدف الحقوق الوطنية الفلسطينية، وأمام الاستهداف الواضح للشرعية الفلسطينية، ورأس الشرعية الرئيس محمود عباس، وهذا ما ورد في عدة تصريحات أميركية وإسرائيلية، وخاصة تصريح فريدمان الذي يطالب باستبدال الرئيس أبو مازن بشخصية أخرى توافق على التنازل عن الحقوق الوطنية.
أمام هذه التحديات والمخاطر لا يملك الكل الفلسطيني إلاَّ التوحد في جبهة واحدة تقودها منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد، والمعترف بها دولية، والتي تحتضن كفاحنا الوطني السياسي والعسكري والدبلوماسي. ولهذا السبب فإن العدوَّ الإسرائيلي يستهدف دائماً منظمة التحرير الفلسطينية، ويعمل على تفتيتها حتى لا يعود هناك مرجعية فلسطينية تخاطب العالم. إن نجاح المجلس الوطني في عقد جلسته القادمة، وتمكنه من اختيار الهيئات القيادية الأساسية التي ستقود الشعب الفلسطيني، وتحدد برامجه السياسية، وترسم الاستراتيجيات الوطنية والسياسية القادرة على النهوض بالقضية الفلسطينية.
ثانياً: الخطوة الثانية وهي الاعلان الحقيقي، والمبدئي، والسياسي والوطني عن الوحدة الجغرافية بين قطاع غزة والضفة الغربية بصفتها أرض فلسطينية تاريخية، وان يتم ذلك بعيداً عن المناكفات وأن تكون هذه الوحدة بعيدة عن المناورات لأن هذه الارض ملك للشعب الفلسطيني وليس لأي فصيل، ولتكن هذه الوحدة الوطنية المسمار الأخير في نعش الانقسام. ولتكن عملية دفن الانقسام وإلى الأبد هدية إلى الشهداء والجرحى الذين ضحوا بدمائهم في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية، وفي أراضي الثمانية والاربعين، ولنقطع الطريق على ترامب وصفقته الداعية إلى فصل القطاع عن الضفة، وإعلان القطاع كياناً لكل الفلسطينيين على حساب إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وعلى حساب تنفيذ القرار 194 الذي يقضي بعودة اللاجئين إلى أرضهم، والتعويض عليهم.
ثالثاً: لا بد من تصعيد معركتنا السياسية والدبلوماسية والقانونية، وتحميل مسؤولية ما يجري لشعبنا من عدوان صهيوني دائم للمؤسسات الدولية، العاجزة حتى الآن عن أخذ قرارات رادعة، ومُلزمة لحماية الشعب الفلسطيني من الإرهاب الذي يمارسه قادة الاحتلال الصهيوني في الاراضي المحتلة. وعلينا أن نستنفر هذه المؤسسات الدولية حتى نصل إلى تحقيق أهدافنا عبر مواصلة مقاومتنا الشعبية، وتعميمها، وتجذيرها لتصبح جهداً يومياً نضالياً يقضُّ مضاجع الاحتلال، ويقتلع المستوطنات، ويطهر المقدسات من دنس الصهاينة.
رابعاً: إنَّ نجاح م.ت.ف في ترجمة برامجها السياسية والنضالية وتحكيم إستراتيجياتها الوطنية التي تشكل إجماعاً فلسطينياً في تحقيق الانجازات، والاهداف الوطنية يعتمد دون شك على الوحدة الوطنية البعيدة عن الحسابات الحزبية.
والمهم أيضاً في الساحة الوطنية أن تضع حركة فتح ثقلها المعروف تاريخياً، في المعركة المصيرية الحالية، كونها العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكونها هي صاحبة المشروع الوطني الفلسطيني، وكونها تأسست العام 1957، وانطلقت عسكرياً في 1/1/1965، وهي التي حملت الهمَّ الفلسطيني، فكانت بحق حركة الشعب الفلسطيني، وهي التي استوعبت كافة التيارات في الساحة الفلسطينية، وهي صاحبة القرار الفلسطيني المستقل، وهي الاحرص على تحقيق الوحدة الوطنية، لأنَّ أهدافها وطنية ولست حزبية ضيقة. وهذا يعني أن على الأطر الحركية، والكادر الحركي أينما كان أن يكون عاملاً، ومتفاعلاً، وناضجاً، وقادراً على الاستيعاب، والتوجيه السليم، وعلى الابداع في بناء القواعد الجماهيرية، والنقابية، والشبابية القادرة على مواجهة الاحتلال إنطلاقاً من شعارنا الاساس والأصيل (وإنها لثورة حتى النصر). والثورة التي اعتمدناها كطريق للنصر ترتكز أولا على تعبئة وتجييش الاجيال الصاعدة جيلاً بعد جيل، فأين نحن من هذه المهمة الاستراتيجية التي بإمكانها حسم الصراع لصالح قضيتنا.