بقلم: بكر ابو بكر


تعرض د.عبد المجيد سويلم في برنامجه الهام (بلا قيود) على فضائية عودة للمفكر العربي وفيلسوف الثورة خالد الحسن في ذكراه الـ21 تلك الذكرى التي لا تغيب لأنه خلّف وراءه (علماً يُنتَفعُ به)، ومن حسن حظي أن كان لي مداخلة في البرنامج المذكور بطلب من الأخ العزيز عبد المجيد، وكيف لي ألا انتصب واقفا عند ذكر القامات السامقة والهامات العالية وعند أصحاب هالات المجد التي تكلل أمثال خالد الحسن؟.
إمام الفكر وفيلسوف الثورة خالد الحسن هو من تركع الأفكار عند عتبة محرابه، وتنصاع الكلمات له، فنفوز نحن... نعم نفوز بأن نكتسب استيعابا للمقاصد والأهداف ما وراء الموقف السياسي ونكسب وعيا وفهما وعمقا.
خالد الحسن القائد السياسي الواقعي هو رجل إعلام وهو رجل علاقات خارجية (من أوائل من فتحوا باب البرلمانات العالمية لمصلحة الثورة) وهو الى ذلك منظر فكري ورجل تنظيم تعبوي الحديث.
إن كان للقائد خالد الحسن من استفادة فمما لا شك أنه استفاد من "المكان" والأشخاص المنزرعين في المكان أولئك الذين عكسوا أفكارهم لتتفاعل فيه.
 كان "المكان" يشكل طغيانا في شخصية خالد الحسن (وأكاد أؤكد في شخصية القائد الراحل هاني الحسن أيضا)، وأثر به من الرجال الكثير ليس تأثيرا استنساخيا بأن يسقط في نفسه الإيمان التسليمي بأفكارهم وإنما تأثيرا تفاعليا إذ استطاع بعقله المتفاعل هذا أن يعي ويفهم ويفرز ويحدد الاضاءة من كل الأفكار المحتشدة عند بوابة محرابه، كل منها يطرق الباب طالبا إذن الدخول.

تأثير "المكان" والأشخاص
استفاد أبوالسعيد من "المكان" إذ عكست حيفا الواسعة والجميلة والرحبة المعطاءة والتعددية النبرة المستلقية بِدِعَة على البحر عكست ذاتها فيه، فنهَل مفهوم (الوسطية) والتفهم، والأفق الواسع من حيفا المكان وامتداد الزمان.
كان لوالده ولصديقه عز الدين القسام تأثيرا كما كان لمجموعة من المفكرين الاسلاميين والقوميين والاشتراكيين الذين خالطهم بعقله التفاعلي، وكانت أفكارهم جميعا تدخل (المِرجل) الذي يستطيع أن يفرز، ويستخرج الذهب من أكوام الصخور، وعندما اختلف مع بعضهم كان خلافه على قاعدة (الحرية) التي تمسّك بها، فهو يهضم من الأفكار ما يريد ويترك ما يريد، وما كان عقلا استنساخيا استسلاميا حيث يفتتن فيختزن فينغلق ويردد القوالب الجاهزة.
لم يكن خالد الحسن مريدا عند صاحب الحضرة، لذلك اختلف كثيرا مع زميله في تنظيمه الذي أسهم في صنعه، اختلف مع تقي الدين النبهاني (مؤسس حزب التحرير) رافضا التسلط والاستبداد ناهدا نحو الحوار والحرية والديمقراطية فخرج من الحزب غير آسف، واختلف مع ياسر عرفات على ذات القاعدة لكن ياسر عرفات هو من هو بالقدرة على هضم المختلفين معه فاحتفظ بعلاقته الجميلة مع خالد الحسن رغم الاختلافات وكذلك كان خالد الحسن.

سياسة وثقافة وحضارية
جمع خالد الحسن بين الثقافة الواسعة والفكر المستنير مع السياسية العملية وبنائه الحضاري النابع من تراث الأمة (الاسلامي العربي والمسيحي الشرقي) وفي عقلية الجمع هذه استطاع أن يربط ويوثق ويتأمل ويضع الأسس لفن التعامل مع المتعارضات أو التناقضات في السياسة وفي المواقف والشخوص.
عندما تتصارع أفكار شمولية مطلقة أوحدية مثل الفكر الشيوعي والفكر القومي–الأناني، والفكر الاسلاموي ويشيّد كل فكر لذاته قلعة حصينة يتم تبعاً لذلك تلقيح كل من فيها ضد أمراض الغير، ويصبح الاختلاط مع الآخر محظورا لأنه يعني التعرض للعدوى والمرض فكانت الحرب هي الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الآخر في الفكر والسياسة والشخوص، ولم تكن مثل هذه المتتالية لتعجب خالد الحسن الذي كان نتاجا لانفتاح جغرافيا حيفا الوادعة، وصوفية المحيط وحضارية من خالطهم وصاغهم هو بعقله... فتكون شخصية ذات عقلية وسطية جمعية.

الشخصية الوحدوية و5 صفات
نعم لقد استطاع خالد الحسن بحكم النشأة والتأثيرات وبتأملاته العميقة وعلاقاته أن يكوّن في إطار شخصيته الصيغة الوحدوية الجامعة القادرة على التعامل مع المتعارضات، التي نراها نحن تتميز بالصفات الخمسة التالية التي انطبقت عليه وتنطبق على من ينهد للوسطية الجامعة:
1. الوعي التاريخي العميق بتاريخ فلسطين والاستعمار والعنصرية ما يشكل المرجعية الفكرية ومقياس المواقف.
2. امتلاك البصيرة والقدرة على استشراف المستقبل ورؤية المتغيرات والمستجدات، وبالتالي التعامل معها بثقة ومرونة.
3. فهم الواقع برؤية عملية-واقعية متطورة حيث (الواقعية السياسية) تعني إحداث انعطافة في التفكير والمواقف والسياسات (حصلت الانعطافة الكبيرة في المنظمة وحركة فتح منذ 1974، وفي فكرة التاريخي-الأيديولوجي مقابل المرحلي-السياسي...).
4. الصلابة (الفكرانية) الأيديولوجية بالحق الذي لايزول أبدا، وبانتمائنا الحضاري العربي-الإسلامي. ففي نموذج أبو السعيد لم تغادر حيفا عقله أو فكره حتى بعد مماته فلقد دعا لإنشاء حزب اللاجئين، حزب العودة إن وقع حل الدولة الفلسطينية على جزء من الارض لأن حق اللاجئ في أرضه لا يزول أبدا.
5. الرحابة باتقان فن الحوار مع الآخر بالاستيعاب، وبالثلاثية التي نرددها دوما وهي (الاعتراف والتقبل والتجاور)، وفي مثال خالد الحسن نراه اضافة لما سبق قد أتقن فن التنظير والجدل.
لما كان اليسار لا يقبل اليمين ضمن التصنيفات السياسية لليسار واليمين فترة حرب المعسكرين، لأن اليمين رجعي، كان اليمين بالمقابل يكفّر اليسار، والقوميون يتهمون الوطنيين إلا أن خالد الحسن لم يقبل مثل هذه الثنائيات المتناقضة أو المتضادة حيث تقف فيها المعسكرات متعادية فقال قولته المشهورة التي يرفض فيها تصنيفات هذه المعسكرات   ومصطلحاتها (اللهم اجعلنا من أهل اليسار بالدنيا غني النفس والمال ومن أهل اليمين بالآخرة الآية: ومن أوتي كتابه بيمينه)، ورفض تدخلات العرب في شؤوننا فكان لواء استقلالية القرار من شعاراتنا في حركة فتح والثورة الفلسطينية بحكم أننا أصحاب الجرح والأكثر إحساسا به، ونحن من يجب أن يكرس ويركز ويخصص كل جهوده لقضيته.
ومع ذلك لم يكن هذا ليتمثل (اقليمية) بمعنى الانفصالية عن الأمة وإنما (قطرية) بمعنى التخصص والتركيز والتكرس لفلسطين، ولم يكن هذا ليعني الانفصال عن الأمة بل الاقتراب منها بندّية ضمن الشعار الذي لطالما كرره الخالد أبوالسعيد (إننا قاطرة في قطار الأمة العربية).
المركزية و التعامل مع النقائض
إن إمام الفكر وفيلسوف الثورة والمفكر الناجي خالد الحسن الذي رسم فن التعامل مع النقائض أو المتعارضات في محيط عربي زاخر بهذه التناقضات كان محركه الأساس باعتقادي 3 مبادئ:
 الأول: هو مركزية القضية الفلسطينية الأساسية، فهي القضية الرئيسة وما سواها يصب لخدمتها فهو على أهميته أمامها ثانوي.
 ثانيا: وجوب تحقيق إجماع الأمة عليها، فمهما افترقت الأمة أو اختلفت وجب أن نعيد لحمتها وتركيز بصرها نحو هذا الاسمنت المتمثل بقضية فلسطين.
ثالثا: مواصلة الدعوة والتحريض، الحشد والمبادرة للعمل الذي يخدم القضية المركزية، ويصنع مواقف أو سياسات أو ابداعات أو أفعالاً تكون هي عامل الربط والتقاطع للجميع مع أهداف الثورة والارتباط مع الأمة.
إن الفكرة الوحدوية الوسطية والسير في حقل الاشواك كما كان يسميه الخالد ياسر عرفات هو فكرة أو سياسة تقتضي فكفكة الألغام أثناء المسير والسعي الى التجميع في ظل التفتت عبر التنقيب عن أصغر عوامل التجمع في الأمة وفي وسطنا الفلسطيني وتكبيرها ما يجعل هذه الجزئية الصغيرة الجمعية هي عامل التوحد حول القضية المركزية، وما يجعل من الوسطية الجامعة علما قائما بذاته.
ما زلنا نستفيد ونتطور ونطور رؤيتنا وطريقة تفكيرنا، فأن يمتلك خالد الحسن صلابة علي بن أبي طالب، وواقعية معاوية بن ابي سفيان فإنه استطاع أن يكون ما لم يكنه غيره، فالتطور مستمر ولا يتوقف لمن يفتح عقله ولا يلقي بمفتاحه في بحر الظلمات.